كثر الحديث عن الطبخ والمطبخ من حولى فى الأسابيع الماضية. باتت تصلنى دعوات إلى مجموعات افتراضية تناقش المكونات والوصفات، وزادت من حولى النصائح عما يمكن الاستعاضة عنه فى ظل قلة الحركة وشح المواد وخلو الجيوب. مرة أخرى يتربع المطبخ وسط موقف عام، وينثر أجزاء منه وسط زخم الأحداث ووزنها، كيف اندست وصفة المجدرة إلى يوم ارتفع فيه عدد حالات الكورونا؟ لماذا استيقظ الجميع على رائحة خبز التنور واحتد النقاش العام عن مزايا الخميرة التقليدية؟
***
حلقات لا تنتهى عن مطبخ الحجر، تماما كما سبقتها منذ سنوات حلقات نقاش عن مطبخ الحصار، طريقة بديعة للتمسك بالحياة والتمسك بمركزية المطبخ فى البيت والعائلة وحتى المجتمع.
***
حين أعلنت لى صديقتى منذ سنوات طويلة عن نيتها بطلب الطلاق، بعد زواج لم تجد فيه ما كانت تبحث عنه، قالت لى ببساطة «يريدنى أن أخبز له كعكة التفاح، وأنا لا أريد أن أخبز، أريد أن أقرأ الجريدة مثله. لماذا لا يشترى الكعكة ونأكلها معا، بدل أن يطلب منى أن ألعب دور أمه؟». أعترف أننى كثيرا ما فكرت بموقف صديقتى فى العشرين سنة التى تبعت حديثنا فى مطبخ بيتى فى دمشق، ربما وضعت أمى وقتها أمامنا كعكة أو قهوة، لا أذكر إنما أتوقع أنها فعلت ذلك، فأمى مضيافة ودافئة فى استقبالها لصديقاتى.
***
تساءلت فيما بعد كثيرا عن ارتباط الطبخ والمطبخ بمكانة المرأة، بالتمييز ضد المرأة، ظهرت فى رأسى أسئلة عن حشر المرأة وحصر دورها بالبيت والأسرة والطعام. قرأت الكثير عن تطور حقوق المرأة خصوصا فى الأعوام العشرين الماضية، بحثت فى الكتابة النسوية عن دور الصور النمطية فى ترسيخ المفاهيم الجائرة، «محل الست بالبيت، الست ملكة المطبخ». نظرت حولى ورأيت أن ثمة تسليم خاطئ بأن المرأة تمتلك شبه غريزة تدفعها باتجاه المطبخ، هناك افتراض مجحف أن من تطبخ هى زوجة وأم أفضل.
***
هناك أيضا، على الطرف الآخر، شبه محاولة من التخلص من الطبخ والمطبخ كطريقة للتأكيد أن المرأة المحامية أو الطبيبة أو الفنانة لن تقبل أن يتم حبسها فى خانة البيت والمطبخ. أظن أن ثمة الكثيرات ممن دفعن باتجاه معاكس للمطبخ أثناء المطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة. كما متوقع أن تطبخ، يجب أن يتوقع المجتمع أن يطبخ. كما متوقع أن ينجح فى الحياة المهنية يجب أن يتوقع المجتمع أن تنجح، وهكذا.
***
فى الأسابيع الأخيرة، أرى المطبخ فى كل مكان من حولى. ربما لأننى أصلا أهتم به، ربما لأن من يشاركنى الوصفات يعرف ولعى بالبهارات ويفهم أننى أحتاج إلى غمس يدى فى العجينة لمواجهة التوتر. ربما أيضا لأن المطبخ أرض الحياد، ربما هو أرض اللقاء، مكان الاجتماع، الغرفة الأكثر دفئا فى الشتاء بسبب الفرن. ربما لأن التغيرات المجتمعية فى السنوات الأخيرة سمحت إلى حد ما للمرأة أن تبتعد قليلا عن دوام كامل فى المطبخ وأتاحت للرجل فرصة المشاركة بالخلط والعجن والخبز!
***
أسابيع الحجر سمحت للرؤية أن تتحول من الخارج للداخل، الكاميرا غيرت الزاوية وكأنها تحركت فى مكانها حتى نظرت إلى داخل البيت وركزت على المطبخ. ماذا يجرى هناك؟ حركة لا تتوقف، يدخل أحدهم، يمسك قطعة خبز، يخرج. يدخل الآخر ينظر حوله، يسأل عم يجرى. أشعر أحيانا أن الحياة كلها يمكن اختصارها بالمطبخ، بغض النظر عن النقاشات المتعلقة بدور المرأة والرجل داخل البيت وخارجه.
***
أنا أحب المطبخ، أحب الوقوف وسطه، أحب مراقبة أفراد عائلتى حين يدخلونه. أحب التحكم بكل ما يحدث داخله. أنا أسيطر على المطبخ ومحتواه، أنا وزيرة الداخلية والخارجية والتخطيط فيما يتعلق بالمطبخ، أنا أستحوذ على كل السلطات ولا أشاركها ولا أتداولها. أنا كرئيس الأركان فى الحرب أسيطر على مرتفع استراتيجى يحتاجه الجميع، سوف يمرون من تحت ناظرى فى كل حركة.
***
أفرك الدقيق بين يدى ثم أدعه يمر بخفة بين أصابعى، أهكذا يمر الزمن؟ أحاول أن أمسكه لكنه يهرب. أدعك ما تبقى فى بيتى من الزبدة فيتماسك. أهكذا أمسك بأولادى فيلتصقون بى حين يشمون رائحة الكعك؟ ربما. أحرك العدس فى قدرة على النار، فى شوربة العدس عودة إلى بيت الأسرة فى يوم عادى، أهكذا نعود إلى الحياة الطبيعية؟ مع رائحة الشوربة وصوت الملعقة فى القدرة؟ أرش بعض نقاط زيت الزيتون فوق ملعقة من اللبنة: هذا الزيت ذهب، ثروة، مدخل إلى الجنة أو هكذا أراه.
***
قد تجبرنا الأزمة العالمية الحالية أن نعيد النظر فى الكثير من المسلمات التى تراكمت بالترافق مع ما يسمى بالحياة العصرية، سوف نعيد النظر بعلاقة الفرد بكل ما حوله: العلاقة مع الشارع، مع المجتمع، مع السلطة، رغم صعوبة إعادة النظر تلك فى كثير من الأنظمة السياسية، سوف نعيد النظر فى كل ما يقع ضمن مفهوم «النظام العالمى» لمراجعة تماشيه مع احترام الفرد وحقوقه. أما المطبخ، فسوف يبقى بالنسبة لى مركز العالم، سوف يبقى مركز الدفء وحيث أشعر بكامل السيطرة، أنا النسوية والمطالبة دوما بالمساواة والمناهضة للتمييز.