فى يوم من أيام المولد النبوى الشريف كانت مجموعة من المهتمين بالأدب يزورون العقاد وكان محور حديثهم كتاب «الأبطال» للكاتب الإنجليزى توماس كارليل الذى عقد فصلا فيه عن النبى الكريم «محمد» وعده من أبطال العالم، وبينما هم فى حديثهم عن ثناء الكتاب على الرسول الكريم قام شاب من الحاضرين الغرباء عن الرهط فطعن فى النبى الكريم بكلمة نابية، غضب الجميع لها واستنكروها لسوء الأدب وسوء الطوية معا كما عبر العقاد «وكان هذا الفتى يحسب أن التطاول على الأنبياء من لوازم الفلسفة والعلوم الحديثة» أو باب للشهرة كشأن كثيرين فى زماننا هذا.
وبعد اعتذار الفتى وخروجه تساءل الجميع: ما بالنا نقنع بتمجيد كارليل للنبى وهو كاتب غربى لا يفهم النبى كما نفهمه ولا يعرف الإسلام كما نعرفه؟ ثم قال أحد الجالسين للعقاد: ما بالك أن تضع لقراء العربية كتابا عن النبى على النمط الحديث فقال العقاد: أفعل قريبا إن شاء الله.
ولكن ذلك لم يتم إلا بعد ثلاثين عاما من هذه الواقعة، ويقدر الله أن يكتب العقاد السطر الأخير من «عبقرية محمد» فى يوم مولد النبى صلى الله عليه وسلم وذلك على غير تدبير منه.
وكان تأخير كتابته خيرا كما يرى العقاد «إذ لو كتبه منذ ثلاثين عاما قبلها لاحتاج لإعادة صياغته، فقد أضافت هذه السنوات إلى فكره وخبرته ورياضته النفسية الكثير.
ويعد كتاب العقاد «عبقرية محمد» من أفضل الكتب التى سطرت عن النبى، وأعتقد أن هذا الكتاب من أعظم حسنات العقاد، وأنه أعظم وسيلة له لنيل شفاعة النبى، فقد دافع عن النبى بطريقة مبتكرة وغير مسبوقة رائعة فى وقت ارتفعت فيه راية التنكر للإسلام والإلحاد، ولو كنت صاحب قرار لقررت كتابى «عبقرية محمد» و«حياة المسيح» على الصفين الثانى والثالث الثانوى.
كتبه للناس جميعا وليس للمسلم فحسب (إنما الكتاب تقدير «لعبقرية محمد» بالمقدار الذى يدين به كل إنسان ولا يدين به المسلم وكفى، وبالحق الذى يبث له الحب فى قلب كل إنسان، فمحمد هنا عظيم لأنه قدوة المقتدين فى المناقب التى يتمناها المخلصون لجميع الناس، عظيم لأنه على خلق عظيم).
ويبين علة كتابته فيقول (إن الناس قد اجترأوا على العظمة فى زماننا بقدر حاجتهم إلى هدايتها فإن شيوع الحقوق العامة قد أغرى أناسا من صغار النفوس بإنكار الحقوق الخاصة: حقوق العلية النادرين الذين ينصفهم التميز وتظلمهم المساواة.
ولقد جار هذا الفهم الخاطئ للمساواة على حقوق العظماء السابقين كما جار على حقوق العظماء من الأحياء والمعاصرين) وهذا جعلهم «ينظرون إلى أقطاب الدنيا كأن الأصل فى النظر إليهم أن يتجنوا عليهم ويثلبوا كرامتهم ولا يثوبوا إلى الاعتراف لهم بالفضل إلا مكرهين.
ويبين أجزاء من هذه العظمة بقوله (إنه نقل قومه من الإيمان بالأصنام إلى الإيمان بالله، الذى لا خالق سواه، ونقل العالم كله من ركود إلى حركة ومن فوضى إلى نظام ومن مهانة حيوانية إلى كرامة إنسانية ولم ينقله هذه النقلة قبله ولا بعده أحد من أصحاب الدعوات).
ويقول (فإذا رجح بمحمد ميزان العبقرية وميزان العمل وميزان العقيدة فهو نبى عظيم وبطل عظيم وإنسان عظيم).
ووصف النبى بقوله (نبيل عريق النسب، وليس بالوضيع الخامل فيصغر قدره فى أمة الأنساب والأحساب، فقير وليس بالغنى المترف فيطغيه بأس النبلاء الأغنياء، ويغلق قلبه ما يغلق القلوب من جشع القوة واليسار. يتيم بين رحماء فليس هو بالمدلل الذى يقتل فيه التدليل ملكة الجد والإرادة والاستقلال، وليس هو بالمهجور المنبوذ الذى تقتل فيه القسوة روح الأمل وعزة النفس وسليقة الطموح، وفضيلة العطف على الآخرين. خبير بكل ما يختبره العرب من ضروب العيش فى البادية والحاضرة، تربى فى الصحراء وألف المدينة، ورعى القطعان واشتغل بالتجارة وشهد الحروب والأحلاف، واقترب من السراة ولم يبتعد عن الفقراء فهو خلاصة الكفاية العربية فى خير ما تكون عليه الكفاية العربية، وهو على صلة بالدنيا التى أحاطت بقومه، فلا هو يجهلها فيغفل عنها ولا هو يغامسها كل المغامسة فيغرق فى لجتها. أصلح رجل من أصلح بيت فى أصلح زمان لرسالة النجاة المرقوبة على غير علم من الدنيا التى ترقبها ذلك محمد بن عبدالله عليه السلام).
ووصف العالم قبل بعثة النبى بقوله (عالم فقد طمأنينة الباطن والظاهر، طمأنينة الباطن التى تنشأ من الركون إلى قوة الغيب، تبسط العدل، وطمأنينة الظاهر التى تنشأ من الركون إلى دولة تقضى بالشريعة وتفصل بين البغاة والأبرياء وتحرس الطريق، عالم يتطلع إلى نبى وأمة تتطلع إلى نبى، ومدينة تتطلع إلى نبى وقبيلة وبيت وأبوان أصلح ما يكونون لإنجاب ذلك النبى).
وخلص فى النهاية إلى حقيقة عظيمة ختم بها فصله الأول «قالت حوادث الكون: لقد كانت الدنيا فى حاجة إلى رسالة، وقالت حقائق التاريخ: لقد كان هو صاحب الرسالة ولا كلمة لقائل بعد علامة التاريخ»، ذلك كله كتبه العقاد فقط فى بدايات الكتاب فكيف بفصوله المتعددة الرائعة.
كلمات العقاد عبقرية مثله فهو محامى العباقرة، رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن الأنبياء خيرا ويكفيه كلمة الافتتاحية تحت العنوان «تقديرا لعبقرية النبى محمد صلى الله عليه وسلم» بالمقدار الذى يدين به كل إنسان وبالحق الذى يبث له الحب فى قلب كل إنسان.