ألوان الروح السبعة - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 3:17 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ألوان الروح السبعة

نشر فى : الأربعاء 15 يونيو 2022 - 10:30 م | آخر تحديث : الأربعاء 15 يونيو 2022 - 10:30 م

زارتنا، كما تفعل كل سنة، صديقة لعائلتى بجميع أعمار أفرادها. هى سيدة عابرة للأجيال، صديقة الكبار والصغار، أعرفها منذ سنوات طويلة وأشعر أنها كما عرفتها دوما فى الشكل والمضمون لا تتغير. من مقر إقامتها فى أوروبا، تمضى السيدة أكثر وقتها فى متابعة أحداث العالم عبر الراديو والقراءة، تحب الثقافة والموسيقى والفنون فتحضر ما استطاعت من فعاليات فى بلدها وفى بلاد مجاورة. تقاعدت مبكرا فى بلد يحترم المسيرة المهنية ويعوض سنوات الخدمة براتب تقاعدى معقول يصون كرامة المتقاعد.
• • •
أتعلم منها كل مرة كيف أتقبل التغيير، سواء ما يتغير بداخلى بسبب العمر وتأثير العالم على حياتى وعلى، أو تغيير الناس لأسباب قد أعرف بعضها وأجهل البعض الآخر. أتعلم منها أيضا أن القدرة على الدهشة يعنى الاستمرار بالبحث والمفاجأة والفضول. هى تتوقف أمام نبتة مسك الليل كل مرة تمر أمامها لتستنشق عطرها بعمق وتستغرب أن النبتة ما زالت برونقها رغم ارتفاع درجة الحرارة المفاجئ. هى تطلب منى أن أنظر إلى الأفق قبيل الغروب لأن ذلك اللون الزهرى الذى ينعكس على مدينة أكثرها من الأسمنت تقول إنه فريد. معها حق، ففى المدينة التى نعيش فيها نور الشمس استثنائى فى أنه يصبغ العمارات البيضاء بألوان الزهور عندما تقترب الشمس من الرحيل. صرت أنتظر تلك الدقائق كل يوم بعد أن ساعدتنى الصديقة الفضولية على التمسك بجمال ساعة الغروب فى عمان.
• • •
اليوم، وأنا أقترب من عمر صديقتى حين التقيتها أول مرة منذ سنوات، أرى أن أكثر ما شدنى إليها هو فضولها تجاه كل ما يحيط بها. ليس فضولا تجاه حياة الناس بهدف البلبلة، إنما فضول حول تفاصيل تعطى للحياة معنى وتساعدها على التواصل مع الناس. كأن تصف مثلا لمعة فى عين بائعة اشترت منها قماشا فتمضى دقائق إضافية فى المحل لأنها التقطت سعادة البائعة وهى تصف أنها خيطت لنفسها فستانا من نفس القماش الذى اشترته الصديقة. أو تبحث صديقتى مع أحد أطفالى عن كلمة تصف بها طعم ما جربته من طبخة جديدة فتقارن كلمات «مالح، مبهر، حلو» وتريد أن تجد مع أطفالى كلمة تغطى الصفات الثلاث.
• • •
أظن أن الفضول يبقى على الحياة، فطالما هناك اهتمام بتفاصيل من حولى سأستمر بالتفاعل والتواصل. صرت أرى أن الشباب يكمن فى روح لا تتوقف عن التفاعل، فحين يقال إن الشباب هو شباب القلب، أظن أن تمسك القلب بالحب وبما حولنا هو ما يبقى الفضول فالحاجة للتواصل. أظن أن الفضول هو أفضل محرك عبر السنوات، وحين يخف الفضول تبهت الروح.
• • •
تماما! أخاف من الروح الباهتة ولا أحب رفقتها. أنا أعيش بالألوان وأستمد الأصفر والأحمر والبنفسجى ممن حولى. فى حضور الأرواح الباهتة أشعر بألوانى وهى تسحب منى وكأن أحدهم استبدلها بالرمادى ثقيل الظل. أحب الروح الخفيفة، تلك التى تتفاعل مع العالم، تضحك وتغضب ثم تتصالح وتخاف فترتاح وتستكين ــ هذه كلها ألوان الروح.
• • •
تخيلوا معى ألوان الروح السبعة:
الأحمر: الطاقة فى أوجها
البرتقالى: فضول طاغٍ
الأصفر: ما كل هذا الكرم؟ الأصفر لون العطاء
الأخضر: يا لتلك الطمأنينة والراحة، هذه روح مرتاحة مع نفسها
الأزرق: بحر من السكون
النيلى: بعض القلق وبداية تساؤل، هل سيؤدى إلى التوتر؟
البنفسجى: إثارة! لعب مع الحياة، «استغماية» مع الموت وعودة إلى الأحمر مع مد اللسان فقد عدت إلى أقوى الألوان.
• • •
أقفز إذا من لون إلى لون، أريد أن أسمع كل لون على حدة كأنه «نوتة» على آلة موسيقية: إنها أصابع البيانو لكل إصبع لون أدوس عليه حسب المزاج. لا رمادى عندى، ففى اللون الرمادى سحب للروح وتوقف للقلب حتى لو بقى الإنسان على قيد الحياة. الفضول منشط للذاكرة ومحرك للصداقات وعدسة مكبرة كتلك التى يستخدمها المفتش فى قصص الأطفال لينظر إلى ورق النباتات فيرى نقطا سوداء على ظهر الخنفساء الأحمر.
• • •
فى حكاياتى مع العمر والسنوات، أريد أن يبقى عنصرا المفاجأة والدهشة ولا أعتاد أبدا على ما حولى وكأنه ثابت. أريد أن أرى التغييرات دوما فى الحياة كما وصفها أحد الفلاسفة القدماء بأننا لا نستحم فى الجدول ذاته أبدا. إن كانت حياتنا إذا جدولا، فأنا أريده جدولا ملونا أستحم فيه من القلق بلونه النيلى فتصبغ روحى بالأخضر لون الاطمئنان.
• • •
أجلس مع صديقتى على الشرفة وقت الغروب وأرى ألوان روحى السبعة تنسدل على المدينة. أفكر بتعويذة سمعتها منذ سنوات فى بلد عشت فيه ويؤمن أهله بالتناسخ ووجود الأرواح حولنا: أن يدخل النور على القلب فتتلون الروح ويزال عنها السواد. أظن أن هذه التعويذة تدعو لكل قلب أن يبحر دوما ضمن ألوان الروح السبعة.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات