اعتقل ابن خالتى المرحوم/ محمد إسماعيل فى أوائل الثمانينيات كرهينة ضمن رهائن كثر من أسرتى منهم أبى وأمى وأشقائى السبعة.. وأصيب بعد اعتقاله بعدة أشهر بحالة غريبة «جعلته يهذى فى العنبر» دون أن يتمكن أطباء السجون من تشخيص حالته فأرسلوه إلى القصر العينى الذى أدرك أطباؤه بسرعة أنه أصيب بالفشل الكلوى وأدى ارتفاع البولينا فى الدم إلى هذيانه.. وقال الأطباء وقتها للضباط إنه سيموت خلال أيام.. فما كان من الداخلية وقتها إلا أن أفرجت عنه فورا ليموت فى بيته ولا تتحمل الدولة التكلفة السياسية والأدبية الباهظة لموته فى سجونها.. ومن الطريف أن الشاويش المكلف بمرافقته بالقيد من القاهرة إلى أسيوط خشى أن يموت فى الطريق فقال له: هل تعرف بيتك قال: نعم.. فاذهب إليه ثم عاد أدراجه.
وذهب محمد إلى المستشفيات وعولج سنوات من الفشل الكلوى ثم توفى بعدها.
والشاهد أن الدولة وقتها كان لديها بصيص من الحكمة يحول بينها وبين تحمل مسئولية موت السجناء واحدا تلو الأخرى دون مبرر.. ولاسيما إذا كان هؤلاء لا يمثلون خطرا على الأمن القومى ولم يدانوا فى قضية.. والتهم الموجهة إليهم من نوعية التهم الهزلية المضحكة التى يتهم بها المئات كنسخة واحدة ومن ورقة واحدة للجميع حتى لو كان بعضهم تلميذا فى الإعدادية أو الثانوية أو فتاة صغيرة مثل تهمة قلب نظام الحكم.. وبعضهم لا يستطيع قلب نظام حكم أبيه فى البيت.
* وفى الأسبوع الماضى ظل د. عصام دربالة يصارع الموت أياما دون أن يتحرك أحد لعلاجه أو الإفراج عنه.. ويصارع عزت السلامونى الموت أياما من انسداد معوى دون علاج أو إفراج حتى يلقى كلاهما الله وهما يشكوان الله وحده تقصير سجانيهم فى حقهم.
لقد أحزننى فراق رفيق عمرى وصديقى وأخى الأثير عصام دربالة الذى عشت معه قرابة عشرين عاما متواصلة أكثرها قضيناها فى زنزانة واحدة.. وتزوجنا فى يوم واحد من شقيقتين كريمتين كانتا رمزا للوفاء والخلق الكريم.. وعاش أولادنا فى أسرة وبيت واحد لسنوات طويلة.. وتقاسمت معه اللقمة مع الألم.. والضحكة مع الدمعة.. والشدائد واليسر.. ولحظات الفرح والحزن.. وكذلك زوجتينا وأولادنا.
لقد رأيت فيه كل معانى التجرد والإخلاص والوفاء.. وكان يصوم يوما ويفطر يوما رغم ضعف بدنه.. وكان يخدم نفسه بنفسه ويأبى أن يخدمه أحد رغم إعاقة يده اليمنى.. وكان يقوم بترتيب الغرفة بنفسه ويصنع الطعام لنا وللضيوف.. ويخدم الآخرين.. وكان يأبى أن يرسل ملابسه لزوجته لغسلها وكان يغسلها بنفسه رغم مشقة ذلك عليه.. وكنت أرسلها لزوجتى رغم سلامة جسدى.. وأمزح معه قائلا «أصعب شىء على الرجال غسل الملابس».. وخاصة أن عصر الملابس كان يحتاج ليدين سليمتين وكان يحتال على ذلك بحيل كثيرة رائعة.
وكلما ألححت عليه أن يريح نفسه قال: «لا أريد أن أشق على زوجتى» .
وقد ظل مخلصا لها ووفيا معها ولم يفكر يوما أن يتزوج عليها تقديرا لتضحياتها العظيمة ووفائها الكبير معه فى أيام محنته.. فقد كان يقدر المعروف ويثنى على أهله .
وكان المرحوم دربالة يتمتع بعزيمة فولاذية.. وقد قابلت الآلاف فى السجون وغيرها فلم أر أمضى منه عزيمة وأشد مضاء فى الخير وتحقيق الأهداف التى يخطها لنفسه.
فبعد أن حدثت له الإعاقة فى يده اليمنى تعلم الكتابة باليسرى وأتقنها.. وكتب بها عشرات الكتب والمذكرات والرسائل.. ولم يفت فى عضده عدم قدرته على استكمال دراسته الهندسية فدخل كلية الآداب وحصل على ليسانس الآداب فى اللغة العربية ثم ليسانسها فى التاريخ ثم حصل على ليسانس الحقوق ثم ماجستير الحقوق ثم جهز رسالة للدكتوراة ولولا مشاغله فى قيادة الجماعة الإسلامية لحصل عليها.
لقد كانت الجبال تلين أمام عزماته الفولاذية فى الخير.. وكان مهذبا رقيقا ودودا رغم جديته الكبيرة.. وكان يداعب الأطفال ويمزح معهم.. وكان يعطى لكل طفل يصلى من الأسرة خمسة جنيهات وكان مشهورا بألعابه وفوازيره مع الأطفال.
ومن الطريف أن هذه الفوازير قد سببت لى وله ولأسرتينا مشكلة أمنية فى التسعينات إذ قال لابنى فزورة فى إحدى «زيارات السلك» فسمعتها «مخبرة معروفة بسواد قلبها»، فأسرعت إلى أحد الضباط وقالت له: إنه يعطى تكليفا لابنى لكى ينقله لى.. ناسية أننا نعيش فى غرفة واحدة.. فأدرك الضابط بعد التحقيق سخفها وأنها تدارى على قرب مجازاتها لرشوتها المتكررة.. ومازال ابنى هيثم يذكره بذلك بعد أن أصبح شابا.
والمرحوم دربالة كان يعد شخصية متكاملة يندر وجودها فى الحركة الإسلامية المعاصرة فهو موسوعى المعرفة رقيق الحاشية.. يشبه حاله حال المتصوفة الكبار فى حالهم مع الله. وهو كريم النفس عند الخلاف.. لا تسمع له صوتا عاليا.. ولكن ترى منه أدبا ورقة وخلقا ونبلا.
* وهو ينحدر من أسرة كريمة ورثت من صفات الجود والكرم والرجولة الكثير والكثير ومعظم أسرته كانوا فى سلك القضاء والمحاماة.
* وقد كان دربالة برا بوالديه فسمى ابنه على اسم أبيه «حسن».. واسم ابنته على اسم والدته «درية».. وكان يدللها باسم الدلال الذى كان يطلقه والده على والدته «ديدى».. وكان والده عالما وشاعرا ومهندسا زراعيا سجن أيام الإخوان فى الخمسينيات عامين كاملين بسجن قنا.
وكان المرحوم دربالة لا يسعى لسلطة ولا يستشرف لها ويحاول الابتعاد عن الأضواء.. ويحب العمل للإسلام فى صمت وروية.. وينكر ذاته فى جنب الله.. ويهضم نفسه قربة إلى الله.. وكان يحب قراءة وتدريس إحياء علوم الدين ويهوى تدريس الإدارة.
وقد كتب كتبا كثيرة أهمها «الإسلام وتهذيب الحروب».. ونقد فكر القاعدة وتفجيراتها فى كتابه الشهير الذى طبعته العبيكان «نقد استراتيجية وتفجيرات القاعدة».. ونقد فكر داعش فى كتاب صغير صدر له أخيرا.. وشارك فى معظم كتب المبادرة برأيه تارة وبقلمه أخرى وبإرشاده ثالثة.
وهو مفكر من الطراز الأول.. وإدارى يصعب أن يوجد نظير له فى الجماعة الإسلامية.
ورغم يسر أسرته إلا أنه كان غاية فى البساطة والقناعة وقد عاش معى سنوات طويلة على أقل القليل.. ولو أراد الدنيا لبسطت له بسطا ولكنه أعرض عنها وطلقها وأناب إلى ربه ورغب فيما عند مولاه الحق.. ولم تغره الدنيا يوما عن دينه وربه ومولاه.
وكان رحمه الله عفيف اليد واللسان.. وكان رغم خلافه السياسى مع الدولة يكره التكفير ويمقت التفجير والعنف.
وقد استطاع بحكمته أن يحول بين الكثيرين من الشباب والانزلاق للعنف وكان يفعل ذلك محتسبا وجه الله الكريم.
رحم الله عصام دربالة الذى فقدناه جميعا.. ورزق أسرته ومحبيه الصبر والسلوان والرضا.