بين نبى الإسلام محمد «صلى الله عليه وسلم» وبين السيد المسيح عليه وعلى أمه الصلاة والسلام من الوشائج والروابط والإخوة فى النبوة والاشتراك فى سننها الكثير.
فقد بشر عيسى بن مريم بشقيقه الأصغر محمد «ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد» وجاء النبى محمد ليهتف فى الدنيا كلها «أنا أولى الناس بعيسى بن مريم فى الأولى والآخرة أى فى الدنيا والآخرة».
ورسول الإسلام محمد «ص» لم يأتمن أحدا على أصحابه إلا ملكا مسيحيا هو النجاشى ولم يمدح ملكا فى حياته كلها لا قبل النبوة ولا بعدها سوى النجاشى، إذ بين علة إرسال أصحابه إليه وإلى بلاده بقوله «ملك لا يظلم عنده أحد وهذا يبين أن قيمة العدل من أسمى القيم وهى ممدوحة من كل أحد من المسيحى أو اليهودى أو المسلم أو السنى أو الشيعى أو البوذى أو الهندى لأنها أغلى قيم الحياة وأرفع قيم الحضارات بل إنها صانعة الحضارات.
ولم يكذب النجاشى ظن النبى فيه، فأكرم وفادة أصحابه وآواهم وأحسن إليهم ووهبهم الأمان الكامل ورفض كل المغريات والوشايات ونصائح بطانته وحاشيته لتسليمهم، ورد وفد قريش خاسرا.
وهذا رمز الكرم عند العرب جميعا «حاتم الطائى» كان مسيحيا وهو الذى كان أحيانا يذبح أغلى فرس لديه لأجل ضيوف لا يعرفهم حلوا بساحته وهو الذى أنشد شعرا رائعا تداولته الأجيال كلها معناه أنه لو لم يجد شيئا يقدمه لضيوفه سوى ابنه لذبحه لهم، ورغم مجازية هذا القول إلا أنه يمثل غاية الكرم.
ورغم أن رسول الله لم يدرك «حاتم الطائى» إلا أنه كان معجبا بكرمه وجوده وقد أحسن إلى ابنته سفانة وأكرمها وأحسن وفادتها إكراما لأبيها بعد أن قبضت عليها جيوش المسلمين فهى سيدة قومها وبنت أكرم العرب.
وكان من ذكائها حينما أوصلها الرسول «ص» إلى ديارها معززة مكرمة أن قالت لشقيقها عدى بن حاتم سيد قومه: اذهب إلى محمد فإن كان نبيا آمنت به، وإن كان ملكا فلن تظلم عنده وسيكرمك ويعرف قدرك، وكأنها قرأت نبل أخلاق النبى «ص».
فلما ذهب عدى إلى الرسول وجده يعيش فى بيت متواضع بلا حراسة ولا برستيج ولا حجاب، فدخل البيت فوجده غاية فى البساطة ولم تكن فيه سوى وسادة واحدة أجلسه النبى عليها وجلس هو على الأرض، فاستعظم عدى ذلك وهو الذى يعرف الملوك والحكام وخدمهم وحشمهم وسلطانهم وحراساتهم وتقاليدهم وبرستيجهم، فقال: «ليس هذا بملك» وتحادث مع الرسول وقتا طويلا حتى أسلم قناعة.
ولما ارتد العرب رفض أن يرتد وحمى قبيلته من الردة، وقد قال يوما لعمر بن الخطاب بعد وأد فتنة المرتدين: أما تعرفنى فقال له عمر بعبقريته: كيف لا أعرفك، آمنت إذ كفروا، ووفيت إذا غدروا، وأقبلت إذ أدبروا، وهذا أعظم مدح ناله عدى طوال حياته.
لقد كانت القبائل العربية المسيحية الكبرى أقرب إلى الإسلام من أهل الوثنية والشرك، وكان الروم أقرب إلى الإسلام والمسلمين من الفرس، لأنهم مسيحيون والفرس كانوا يعبدون النار.
ولما أرسل الرسول «ص» رسالته إلى هرقل عظيم الروم استقبلها بالتمعن والدراسة والسؤال والاستفسار وخلص فى نهايتها أن الرسول محمد سينتصر وسيملك موطن قدمه فى فلسطين.
أما كسرى فقد مزق الرسالة بصلف وغرور وكبر وتمادى فى ذلك حتى أنه أمر عامله على اليمن بالقبض على الرسول دون تدبر أو تفكر.
وقد بشر القرآن بانتصار الروم المسيحيين على الفرس عباد النار ووصف هذا اليوم «ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله» لأن المسيحيين العرب وقبائلهم كانوا معروفين قبل الإسلام، وهم جزء لا يتجزأ من الحضارة العربية والإسلامية، وبعضهم دخل فى الإسلام وأثراه وبعضهم ظل مسيحيا كما هو وأثرى أيضا الحضارة العربية والإسلامية.
فهذه دولت أبيض أول امرأة فى تاريخ العرب كله تصعد خشبة المسرح، ومن أفضل من تنطق العربية هى وزوجها جورج أبيض وتمثل نموذجا فريدا فقد أشهرت إسلامها هى وزوجها وابنتيها طواعية وحفظت القرآن الكريم وقامت بطباعة عدة آلاف من نسخ القرآن مترجمة للفرنسية على نفقتها الخاصة وأرسلتها للسفارة المصرية بفرنسا لتوزعها هناك صدقة على روح زوجها الحبيب جورج أبيض، وكانت تبكى لسماع القرآن من الشيخ محمد رفعت وتبرعت بكل مجوهراتها لتسليح الجيش المصرى مع أم كلثوم فى حملتها الشهيرة وماتت فى شهر رمضان وهى صائمة مخالفة أوامر أطبائها بالإفطار فقد تمنت أن تموت وهى صائمة فاستجاب الله لرجائها وأدركت ما تمنته.
المسيحيون العرب ليسوا محدثين أو طارئين على الحضارة العربية والإسلامية بل هم جزء أصيل فيها وفاعل رئيسى فيها، وقد قال الليث بن سعد «إن وجود الكنائس يعد جزءا من منظومة العمران فى بلاد الإسلام».
والمسيحيون العرب لا يحبون الكنتونات وليست لديهم نزعات انفصالية ولا يحبون تكوين الميليشيات باستثناء حزب الكتائب فى فترة زمنية اعتبروها هم سيئة بالنسبة لهم.
يمكنك أن ترى المسيحيين العرب فى الشاعر القروى «الأخطل الصغير رشيد الخورى» الذى كان يطلق عليه قديس الوحدة العربية، أو الشاعر جاك شماس أو ميخائيل وردى، أو نظمى لوقا، أو نبيل بباوى، أو ميشيل كعبى الذى كتب رسالة الدكتوراة عن على ابن طالب، أو تراه فى جورج قرداحى، أو فى أمثال د/ مجدى يعقوب، أو فى مئات المسيحيين الذين كانوا يحضرون درس الإمام محمد عبده، أو فى قرابة 32 شاعرا مسيحيا الذين رثوه بعد موته، أو فى أسرة مكرم عبيد كلها، أو فى أسرة فخرى عبدالنور الذى كان يجهز غرفة خاصة لمفتى الديار المصرية الشيخ حسانين مخلوف ليمكث فيها دون غيرها إذا نزل جرجا، أو فى مئات الباشوات المسيحيين الذين بنوا مساجد أو مستشفيات أو ملاجئ أيتام خيرية، أو فى رواق الأقباط بالأزهر الذى كان رمزا للتعددية الدينية حتى داخل الأزهر، أو فى جورجى زيدان مؤلف الروائع وصاحب أجمل قلم عرفته شخصيا وتعلمت منه فن الكتابة، أو سليم وبشارة تقلا مؤسسا الأهرام، أو تعرفه فى آلـ اليازجى وبطرس البستانى الذين أسسوا أول دائرة معارف عربية أو فى كل المسيحيين الذين ساعدوا محمد على فى بناء مصر الحديثة.
تراه فى كل مسيحى صنع نهضة لوطنه أو خدم أبناء وطنه من المسلمين أو المسيحيين بجد وإخلاص وإتقان وأمانة، أو شاركوا فى حروب مصر كلها ضد العدوان الصهيونى بدء من حرب 48 وحتى نصر أكتوبر 73.
وجود الكنائس القديمة فى بلاد المسلمين دليل على عظمة الإسلام والصحابة الذين لم يحطموا كنيسة أو يفزعوا راهبا فى صومعته، أما بناء الكنائس الجديدة فدليل على أن المسلمين ما زالوا يستلهمون روح الشريعة الإسلامية التى لا تبيح فقط التعددية المذهبية ولكنها تتيح وتبيح وتحترم التعددية الدينية التى نص عليها القرآن العظيم «لا إكراه فى الدين» «لكم دينكم ولى دين» «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» «لست عليهم بمسيطر».
المسيحيون العرب جزء أصيل من الحضارة العربية الإسلامية وهو يثريها وينفعها بالتعددية ولا يضرها.