علاقتى بالقاهرة متقلبة، لا أثبت معها على حال، تتصرف كأنها عاشق متغير الهوى، يحبنى يوما ويقسو على يوما آخر، لا يعطينى جوابا نهائيا بالنسبة لمستقبلنا معا، والسنوات تمر دون أن نفترق. وأنا بدورى أشك ثم أتيقن، أحب ثم أخاف، أعد نفسى أن أبتعد ثم أهرول عائدة. تبكينى القاهرة فرحا وقهرا أحيانا فى ساعة واحدة، حتى أننى أنسى سبب البكاء، هل لأنها كافأتنى بضحكة رجل عجوز على عربة بيع أوانى منزلية قديمة، أم لأنها ضربتنى بكلمة نابية من شاب كاد أن يلمسنى فى الشارع؟ الفرق بين الحدثين دقائق أصبح فيها كالمجنونة التى تقطف أوراق زهرة الأقحوان وهى تردد «يحبنى، لا يحبنى».
***
يتقلب مزاجى بحسب مزاج المدينة فأنا أسيرة طاقتها، لا قول لى فى العلاقة، أمشى فقط خلف إشاراتها وأنتظر أن ترمينى بنظرة، أن تحن على بساعة غروب أرى فيه الحمام يطير فوق أساطيح العمارات من حولى. هى عاشق ساحر يغمرنى بحضوره فأجاريه فى جنونه. يقرر فى ساعة غضب أن يلفظنى فأجد نفسى على قارعة الحياة لا أفهم ما الذى رمانى هناك، أتساءل أين ذهب الحب. أنا فى المقابل، أبادلها العاطفة والجفاء، أغازل فيها عيونا سوداء ألتقى بها على زاوية الطريق، وتشدنى ضحكة ترن فى أذنى مع كلمتين: «صباح الفل». ثم أتمنى أن أصفعها حين تقع عيناى على طفل حافى القدمين مكوم عند ضفة النيل ينتظر أن ترأف به الدنيا ولا ترأف.
***
تفاجأ فنان رسم القاهرة بكثير من الحساسية حين أسررت له يوما أننى ربما أحب لوحاته لأنها تصالحنى مع القاهرة. رد أن لا أحد يتشاجر مع القاهرة فاختلفت معه فى الرأى. استغرب ردى وحاول إقناعى أن القاهرة أهم وأكبر من أن أزعل منها. فقلت إن من حقى أن أحب المدينة وأتضايق منها، من حقى أن أذوب فى زحمتها فأشعر ربما كما يشعر الدرويش وهو يلف مع غيره على إيقاع الدف: حب بإمكانه أن يملأ قلبى ويفيض حتى يشعر به من حولى. ومن حقى أيضا أن أشعر أننى وحدى فى مواجهة حشد من الناس يصرخون دون أن أميز كلماتهم فلا أفهم ما يقولونه.
***
لا أظن أن بإمكان أى شخص أن يبقى محايدا تجاه القاهرة، لا تدع القاهرة من يزورها وشأنه. تتقرب ثم تضرب، تلين ثم تقسو، تقبل ثم تصفع، تتمرغ فى كلمات العشق حتى ترسمها على حيطان الأبنية المهترئة، ثم تسحب البساط من تحت القدمين بلحظة دون إنذار. أقع على جنبى وأدعكه وأنا أتساءل كيف وثقت فيها. فى القاهرة ليس ثمة «ممكن»، هو حب وكراهية، هو امتلاك فردى للمدينة ونفور منها.
***
أنا أمتلك المدينة، أفتح ذراعى فألتقط هواءها، أغلقهما لأسجنها فى قلبى. أريد قطعة منها أحملها معى فى تنقلاتى. قد تكون جزءا من أغنية سمعتها من سيارة تمر تحت بيتى. غالبا كلمات للست، لا أحد يصالحنى مع القاهرة مثل الست أم كلثوم. قد تكون أمسية أحمل ضحكات أصدقائى منها إلى بلاد لا أصدقاء لى فيها. أريد أن اقتطع من سمائها قماشا أفرده فى بيتى حين أبتعد عنها فيخف الحنين. أريد أن أكتب فهرسا كاملا عن أنواع السلامات الصباحية التى أسمعها ممن حولى. صباح الفل، صباح الجمال.
***
الجمال هو أن أمشى فى الحى الذى أعيش فيه فيقول لى بائع الورد إن الشارع منور. هو منور بابتسامة أهله، فهى أيضا تصالحنى مع المدينة. الجمال هو رائحة الذرة المشوية وصوت طرطقة المقط الحديدى الذى يلف به صاحب عربة الذرة فوق النار. الجمال هو ثرثرة أسمعها وأنا جالسة فى شرفة بيتى فأطل برأسى لأرى مجموعة شباب يضحكون تحت بيتى. الجمال هو وجود كم هائل من المحبة تظهر على مدى الأسبوع من أصدقاء يملأون القاهرة، قاهرتى، بأمسيات فى بيوت فتحوا لى أبوابها فلم أشعر بالغربة فيها قط.
***
هى إشارات دائمة إلى حب يتجدد رغم الزحمة والقهر، هى ألون تظهر على المبانى الرمادية وتختفى قبل أن أكمل قراءة كلماتها. ماذا قالوا؟ لا يهم، الألوان غطت على اللون الرمادى ولو لدقائق كانت كافية لبعض التصالح. العلاقة مع القاهرة بحاجة لإشارات كثيرة أفهم فيها أن المدينة، مدينتى، ما زالت بخير. لا إشارة أقوى من قدرة أهلها على احتواء الغريب والتخفيف عنه.
***
أنا أمتلك المدينة حين أجلس على أريكة وحدى ولا أتمنى أن أكون فى مكان آخر. سوف يرن الهاتف حتما أو قد تظهر صديقة دون خطة سوى أنها تريد أن تجلس قربى. أمتلك المدينة لأن هكذا هى القاهرة، من المدن القليلة التى لى فيها ركائز، مرجعيات أتعمد أن أزورها حين أشعر أننى على وشك الاختناق. حارة قديمة فى الخان، شارع لطالما توقفت فيه من كثر الزحمة فاكتشفت عمارة قديمة واجهتها أصبحت المفضلة لدى.
***
فى لحظات غضبى من هذا الحب، يأتينى صوت الست وتلمع ضحكة بائع الورد، فأشعر أننى أمتلك المدينة.