صدر فى عام 2016 كتاب بعنوان «حروب الشارع: دليل لثورة عمرانية» من تأليف «جانيت صاديق خان وسث سولومون وكانت مفوضة النقل فى مدينة نيويورك من 2007 إلى 2013 فى الوقت الذى كان فيه مايكل بلومبرج عمدة المدينة (وهو الآن يحاول نيل ترشيح الحزب الديمقراطى فى انتخابات الرئاسة آخر هذا العام) وكان بلومبرج قد زار مدينة كوبنهاجن وأعجب بتنظيم التنقل فيها من حيث النقل العام والدراجات وأراد أن تقتدى نيويورك بهذه المدينة الدنماركية. وكما تحكى فى الكتاب فبعد أن اختارها بلومبرج للعمل معه فإنه قال لها وللفريق «نحن نثق فى الله وعلى كل الآخرين جمع البيانات». تعلمت جانيت خان من الكثير بدءا من مدن مثل كوبنهاجن ومدن أخرى مثل بوجوتا فى أمريكا اللاتينية وكُتّاب عظام عن المدينة مثل جين جاكوب وأيضا من النشطاء الذين يكتبون على مواقع التواصل ومنظمات للمجتمع المدنى وكثيرين غيرهم ولم يعنِ هذا أنها كانت تنقل ولكنها كانت تتعلم وتجود.
أدخلت جانيت تحسينات عديدة على التنقل فى نيويورك مثل حارة الأتوبيس العام فقط فى بعض الشوارع التى بها ساحات خالية من السيارات. كما حاولت أن تقوم بتدخلات وعمل تحسينات تُنتج بالضرورة تحسينات ملموسة على المدى القصير ثم على تلك التحسينات الملموسة تنبنى توقعات أخرى أكبر وهو ما يخلق فرص لا نهائية لما أسمته «العمران الجرىء المبنى على التغيير». وهى تتبنى وجهة نظر جين جاكوب وآخرين عن فائدة الكثافة وكيف أنها تخلق فرصا للعمران والأماكن الحضرية ذات الكفاءة العالية والمبنى على المشى والنقل العام أساسا.
يعطى الكتاب أمثلة بسيطة ولكنها أيضا تؤهل للتحولات المطلوبة وتركز على إعادة تصميم وتخطيط الشارع من حيث مثلا تضييق بعض الحارات المرورية المتسعة بصورة زائدة. وكيف يمكن تقليل عرض حارات انتظار السيارات. ويمكن ذلك من عمل طريق للدراجات واقترحت ما يسمى برجيم الطريق وهو ما يساعد فى تهدئة المرور مما يجعله أكثر أمانا للناس.
ما فعلته جانيت صديق خان كان ملهما للعديد من المدن فى أمريكا والتى يغلب عليها سيطرة السيارة كما أنها فى تركيبها وتاريخها مختلفة عن مدن أوروبية سواء فى الدنمارك أو هولندا أو المدن الأخرى. وأعطى لكل الناشطين فى مجال العمران والتنقل سوابق مدعومة بالبيانات وحجم التغيير الكبير التى أحدثته فى مدينتها.
وطبعا للكتاب نقاده سواء فى طريقة تنفيذ خططها أو فى أنه مكتوب لتسجيل إنجازاتها (وطبعا هذا حقها).
ليست مدينة نيويورك وحدها التى سعت بقوة لهذا التغير العمرانى لشوارعها وأماكنها العامة وهو سعى يقوم به فريق أساسه نظرة عمرانية ومعه بالطبع خبراء فى التنقل والطرق ولكنه لا يُترك لمهندسى الطرق (ربما مثل ما يحدث هنا)، ولكن أيضا مدينة لندن فى سعى حثيث لها لتحويل شوارع المدينة وتنظيم نقل عام أكثر كفاءة وأيضا طرق للدراجات والمشاة. ولم تكن عمدة باريس الحالية آن هيدالجو بعيدة عن ذلك منذ تعيينها والآن أحد أهم الوعود فى إطار حملتها للفوز بالمنصب لمرة أخرى أنها ستلغى حوالى ستين ألف مكان انتظار للسيارات فى المدينة لتطوير شبكة الدراجات.
نقرأ هنا إما عن توسيع الشوارع بصورة هندسية بحتة تتعامل معه من خلال حسابات مرورية مبنية على نظريات يتم تحديها فى أنحاء العالم المختلفة أو عن بعض المبادرات للترويج للدراجات مثلا وهى تنقل وتتبنى تجارب قد لا يمكن تعميمها على مستوى المدينة كما أنها اقتصرت على مسار الدراجة أو مكان ركنها ولم تأخذ الجوانب الأخرى للشارع الاهتمام الذى تستحقه. وتدفعنا تلك المحاولات التى تتبناها بعض الوزارات مدعومة بهيئات مانحة أو مقرضة أجنبية للتساؤل عن أولوياتنا لحل مشكلة التنقل وكيف يمكن أن نبدأ فى خطوات ذكية مثل التخطيط المبنى على إحداث ما يمكن أن نسميه بتأثير الدومينو بحيث يحدث تغيير حقيقى ولو بسيط ولكنه جيد وإيجابى وهو ما يمكن أن يؤهل لتغيير أكبر وهكذا. وتسمح تلك الطريقة بتجارب صغيرة مبنية على بيانات موثوقة ودقيقة كما أنها تخاطب وتتعامل مع الإطار المؤسسى والإدارى المنظم للعمران.
لا يمكن أن ننظر لما يحدث بمصر الجديدة إلا بأسى شديد ليس فقط للأرواح التى أزهقت أو للمصابين أو المتألمين بما كان يمكن تجنبه ولكن أيضا لما يحدث فى باقى أجزاء مدننا المصرية من افتقاد لرؤية عامة وشفافة للشارع وهو أحد أهم مكونات وموارد المدينة وسيطرة رؤية أحادية (غالبا مرورية) وتجاهل الشارع كفضاء عمرانى عام.
هل يمكن أن نتعلم من نيويورك أو من بوجوتا أو من الرباط أو من... هناك فى الحقيقة العديد من الأمثلة الموجودة التى نستطيع أن نتعلم منها لا أن ننقلها ولكن هل لدينا الإرادة الحقيقية لتحسين شوارعنا؟
لأننى أمشى كثيرا فأنا أرى الرصيف الذى يرتفع ويهبط ويفاجئنى بالحفر وبما يخرج من باطن الأرض تقريبا فى كل يوم وأتساءل هل يمكن أن يكون لدينا رصيف لا يتربص بالسائرين فوقه؟ لست متشائما ولكن فى نقاش منذ عدة أشهر مع شخص مسئول سألنى عن القاهرة وكانت إجابتى إن مشاكل القاهرة يمكن أن تحل عندما يكون لديها عمدة.