الإشارات لا تقول الكثير أو ربما لكثرة اللغات المتراصة حرف خلف الحرف لا تستطيع أن تميز ولا أن تجد الطريق.. تحاول للمرة الأخيرة البحث عن من يرشد الى ما تريد ولا فائدة هنا فالعاملون بهذا المبنى لا يتقنون أى لغة تعرفها.. لكل لغته ولونه وشكله وحتى رائحته.
فجأة يمتلكك إحساس شديد بالغربة تبحث عينيك عن اشارات تخفف من وطأة هذه المشاعر فليس أوحش من الغربة فى الأوطان أو ما يسمى كذلك..!
بين اكتضاض الاجساد المتراكضة حاملة أعدادا هائلة من الشنط والاكياس البلاستيكية والورقية الفاخرة تبحث لك عن مساحة.. تبدأ الإشارات فى الوضوح بعض الشىء تجد حرف الألف محشورا بين الخطوط التى تشبه حروفا للغات أخرى مما يزيد ذاك الإحساس بالغربة.. تردد على نفسك هذه هى الحداثة هكذا هى مطارات ومبانى مدن المستقبل وليس الماضى المزروع فى بطن القبيلة.. فى لحظات الانتظار الطويلة حتى يأتى دورك فى طابور بدا وكأنه الثعبان الملتف حول نفسه تسرى قشعريرة فى جسدك ويراودك إحساس بالبرد ولا تستطيع التمييز هل هو ناتج عن الاحساس بالغربة ام انه نتيجة اجهزة التكييف فى هذا المبنى.. تكتشف ان البرودة هى ما يميز هذا المكان كله وانك لم تحس منذ قدومك قبل ايام سوى بذاك الصعيق المندس بين غابات من المبانى الشاهقة العلو وفى تلك الاسواق المزدحمة بما لذ وطاب وما تبحث عنه النفس البشرية الاستهلاكية حتى النخاع.. لا شىء يوحد المكان سوى الاستهلاك.. استهلك ثم استهلك ثم اكثر من ذلك .. هى برودة غير مرتبطة بفصل لا ربيع ولا خريف هنا هو فقط شتاء قاسى ملبد بالكثير من الشمس الحارقة وبعض الرياح الرملية!
●●●
تستعين ببعض الرائحة فهذا ما يميز سكان هذه البقعة من الوطن حبهم للتعطر بخلاصة العود والمسك والعنبر حتى لم يعد لشركات العطور والازياء العالمية سوى التحول لملاءمة هذه الرغبة فى الاستحمام بالعطر فهذه المنطقة هى الأكثر استهلاكا له.. ليس فى ذلك من نفع. لا يزال احساسك بالغربة فى ازدياد لا عامل موحد لها ولا شىء يحولها الى جملة بشرية مفيدة.. ثم ترحل حيث الكلام المتراطم كالموج وهنا أيضا لا تجد ما تبحث عنه بشدة لا مكان للغة التى تعشق.. فالعربية هنا غريبة جدا غربة ناطحات السحاب عن بيوت حسن فتحى الطينية! تردد لا يهم لا يهم فاللغة هى وسيلة وليست غاية! أو هكذا تخفف عن نفسك وطأة اللحظة!
فى ثوانٍ يعمل عقلك بسرعة شديدة ليخفف من هذا العبء الثقيل شكلا من اشكال الغيمة شديدة السواد تلاحقك وتبدأ فى النزول تدريجيا لتلاصق رأسك فيتحول احساسك بالبرد الى شيء من الخوف لم يسبق وإن رأيت خيمة تطارد انسانا ثم تحاول التخفيف من هذا الخوف فتردد هكذا هى مطارات المدن الكزمبوليتنية.. هذه هى مطارات المدن التى تخلصت من عباءة القبيلة؟ تتطاير علامات التعجب والسؤال فى رأسك ويعود السؤال لك «هل تضحك على نفسك بنفسك؟» أين رحلت القبيلة؟ هى هنا فى عمق هذا المبنى وفى طول هذه الشوارع المعبدة جدا حتى تخال بعضها قد اغتسل بالحرير فراح يعكس صور ناطحات السحاب والنوافير الراقصة حيث تتراص الاجساد كل مساء لرؤية معلم آخر من معالم المدينة الجديدة القديمة! ثم تضحك طويلا فبين الاشارات المتراصة ليست تلك المكتوبة على يافطات المبنى لترسم لك خريطة مسارك بل الاشارات المتحولة فى شكل بشر وأشياء.. بينها لا يوحى بأن القبيلة قد رحلت بل هى فى مجموعها تؤكد انها لا تزال مغروسة فى عمق هذا الوطن..
●●●
تراقب ببعض الفضول تجاور بعض أشكال الحداثة مع البداوة المتخلفة.. ترى كيف أن شنطة الشانيل تلتصق بالعباية السوداء الحريرية التقليدية التى حولتها انماط الاستهلاك هى الأخرى لكثير من التطور والاشكال حتى تعجب من تلاصق الستر المراد بالإغواء الملون! يسير الرجال بالطبع أمام النساء دوما وتبقى الفتيات يتمايلان رغم ذلك يسرقنا النظرات الى الجنس الآخر أو يرسلنا الرسائل النصية من هواتفهن الذكية جدا.. كل يحمل آخر منتوجات التكنولوجيا ففى هذه المدن لكل طفل هاتف ذكى وأى باد دون أن ننسى المربية طبعا ويفضل أن تكون من الفلبين كجزء من الوجاهة و«الكشخة».. لكل طفل أى بود أيضا ليستمع الى آخر أغانى الراب جنب الى جنب مع أحدث صيحات الفرق القومية.. قومية؟؟ لا يوجد تعبير كذلك فى هذه الأمكنة، المدن، الأندية الحديثة.. القومية التى توحد الجميع هى ثقافة اشتر كما تشاء.. كل ما تشاء.. اشرب ما تشاء ولكن ابقى افكارك خارج هذا المكان؟ وبدل من ادخلوها آمنين تلك الشهيرة على مدخل مطار المدينة الأهم ترى شعار لم يكتب ولكنه يحس «اخلع عقلك وارتدى عقالك وادخلها آمن جدا!
كاتبة من البحرين