السجون المصرية.. بين وازعى الأمن والإنسانية - ناجح إبراهيم - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 12:58 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السجون المصرية.. بين وازعى الأمن والإنسانية

نشر فى : السبت 16 مايو 2015 - 9:35 ص | آخر تحديث : السبت 16 مايو 2015 - 9:35 ص
• «الحسنة تخص والسيئة تعم عند أهل السجون».. هذا هو المبدأ غير الأخلاقى الذى تسرى به السجون منذ قديم الزمان وحتى اليوم

• كلما زاد عدد السجناء أو المعتقلين زادت مآسيهم الطبية.. فهذا مريض بالكبد وآخر بالكلى وثالث بالسكر وكلهم يحتاجون إلى علاجات يومية

• مات بعض المعتقلين فى التسعينيات لأنهم ظلوا شهورا لا يأخذون الأنسولين

• السجين لا حول له ولا قوة.. ولا يملك من أمره شيئا وبينه وبين مستشفى السجن ستة أبواب حديدية ولا يستطيع الوصول إليها بعد غلق الزنزانة إلا بمعجزة أشبه بمعجزات الأنبياء

• رحم الله كل من أحسن إلى سجين أو معتقل سواء اتفق معه فى الرأى أو خالفه الرأى

• ضابط السجون يعاقبه رؤساؤه إن قصر فى مسئوليته الأمنية ولا يعاقب إذا ما قصر فى الوازع الإنسانى أو الصحى

لم يكن غريبا أن يوصى القرآن بالأسير والسجين والمعتقل إلى جوار توصيته باليتيم، خاصة فى مسألة الإطعام.. لأن السجين والمعتقل مثل اليتيم قد انقطعت عنهما أسباب الحياة.. ولا يستطيعان الوصول إليها إلا بمساعدة الآخرين «ويطْعمون الطعام على حبه مسْكينا ويتيما وأسيرا».. وقد جربت حاجة المعتقل والسجين إلى كل شىء فطعامه وشرابه وعلاجه ودراسته وكتبه وخروجه ودخوله بيد سجانيه.. فإن أحسنوا إليه استطاع الإبحار فى بحر السجن المتلاطم.. وإن أساءوا إليه أو منعوه شيئا من ضروراته وحاجياته تكدر عيشه وتمزقت حياته وقد يمرض أو يموت.

تذكرت ذلك وأنا أقرأ خبر وفاة القيادى الإخوانى فريد إسماعيل ورغم أنى لا أعرفه شخصيا ولم ألتقه يوما إلا أننى حزنت بشدة لوفاته وهو سجين.. فقد أعاد إلى هذا الخبر ذكريات صعبة ودفعنى للكتابة اليوم عنها ولم أفكر يوما فى الكتابة عنها.. إذ قد توفى فى السجون المصرية فى التسعينات قرابة 100 معتقل نتيجة الإهمال الطبى فى أوقات احتدام الصراع المسلح بين الجماعة الإسلامية ونظام مبارك.

وقد تفكرت طويلا فى أمر الرعاية الصحية فى السجون فوجدت أن مسئولى السجون فى كل الأوقات يتصارعون بين وازعين هامين وخطيرين: هما «الأمن ومتطلباته ورعاية السجناء إنسانيا بمتطلباتها ومنها الرعاية الصحية التى تحتاج إلى منظومة متكاملة.

وقد رأيت عبر سنوات طويلة عشتها فى المعتقل أن ضابط السجون عادة ما يعاقبه رؤساؤه إن قصر فى مسئوليته الأمنية أو فى الوازع الأمنى ولكنه لا يعاقب عادة إذا ما قصر فى الوازع الإنسانى أو الصحى.

ولذلك على كل من يدخل السجن من السياسيين أو الجنائيين أن يعطى الله ونفسه والآخرين عقدا لا ينقضه ألا يستخدم الناحية العلاجية الطبية خاصة والإنسانية والتعليمية عامة فى أى خرق أمنى وخاصة الهروب من السجن أو تهريب الممنوعات الخطيرة حتى لا يغلق أبواب العلاج والتعليم والإنسانيات أمام الآلاف من زملائه أو الذين سيأتون من بعده إلى السجون.

وأذكر أن ذهاب الرائد/ عصام القمرى وكان سجينا معنا فى طرة إلى القصر العينى دوريا لعلاج أسنانه فى منتصف الثمانينيات قد استغله فى رسم خريطة للهروب الكبير مع اثنين آخرين لم يؤد فحسب إلى إغلاق كل الخدمات الطبية فترة طويلة.. ولكنه أغلق كل شىء علينا جميعا حتى الهواء والطعام دون ذنب أو جريرة أو شبهة مشاركة.

وأذكر أن هروب على الشريف الذى لم يستغرق يومين من القصر العينى كان سببا فى إغلاق عنبر المرضى المعتقلين به فترة طويلة.. «فالحسنة تخص والسيئة تعم عند أهل السجون».. هذا هو المبدأ غير الأخلاقى الذى تسرى به السجون منذ قديم الزمان وحتى اليوم.

كما أن توتر الحالة خارج السجون بين الدولة والجماعات السجينة دائما ما يعلى من قدر الهواجس الأمنية.. وأذكر أن د/ سليمان جاد الكريم اعتقل لأنه أحضر فرخة مشوية لأحد المعتقلين الذين جاءوا للعلاج فى المستشفى الجامعى بأسيوط فلحق بهم لمدة تصل إلى 8 سنوات.
وقد خلصت من تجاربى فى الحياة أنه كلما زاد عدد السجناء أو المعتقلين زادت مآسيهم الطبية.. فهذا مريض بالكبد وآخر بالكلى وثالث بالسكر والضغط وكلهم يحتاجون إلى علاجات يومية.

وقد ذهبت إلى سجن الوادى الجديد أثناء المبادرة فوجدت فيه 4 آلاف معتقل من الجماعة الإسلامية ليس لدى أحدهم قرص أسبرين واحد رغم أنهم كانوا يعانون من كل الأمراض ولا يجدون أى رعاية طبية.. وكان السجن كله وقتها حافيا.. فكان الذين يخرجون للعيادة فى الصيف فى درجة حرارة 43 تتشقق أقدامهم من الحر أثناء ذهابهم وعودتهم من مستشفى السجن.. وبعضهم كان يهان أو يضرب أو يؤمر به إلى التأديب بحجة التمارض.

فلما بدأت المبادرة كان هذا الملف من أفضل الملفات التى لقيت العناية من الجميع وقد قيض الله لهذا السجن رجلا نبيلا اسمه اللواء خالد خلف الله وهو بالمعاش منذ سنوات طويلة.. وهذا الرجل لم يعذب أى إنسان طوال حياته المهنية.

وقد قام هذا الرجل بما يشبه المعجزة لنقل سجن الوادى الجديد من كونه مأساة ومقبرة إلى أفضل السجون ونقل الرعاية الصحية نقلة خطيرة.. فإذا بالعشرات يجرون الجراحات المهمة والخطيرة فى مستشفى الجامعة بأسيوط.. وإذا بغرف العمليات فى السجن تبدأ العمل.. وإذا بالمعتقلين وأطبائهم المتميزين يديرون دفة العمل كاملة فى المستشفى ويعاونون الأطباء القادمين من القاهرة وأسيوط.. وإذا بسيارات الإسعاف تنقل أى مريض فورا من صحراء الوادى البعيدة ليلا أو نهارا ودون أى تعقيدات إلى مستشفيات جامعة أسيوط.. وإذا بأى مريض حالته حرجة يطلق سراحه فورا.. لقد حول هذا الرجل أسوأ سجون مصر إلى واحة كبيرة للخير والتعليم والصحة وممارسة كل الهوايات.

لقد كان هناك ضابط طبيب معروف فى السجون كان يأمر بعدم السماح بأى دواء يأتى للمعتقلين حتى يعرض عليه وكان يصادر كل الأدوية وقد عرفت من زملائه أنه كان لصا كبيرا وكان يأتى أسبوعا لسجن الوادى كل شهر فيأخذ أدوية تقدر بخمسين ألف جنيه ويمضى.. وفى إحدى المرات كانت هناك حملة تفتيشية على السجن فغادر السجن بالعلاج قبل يوم من الحملة حتى لا تضبط معه هذه الأدوية وهذا النموذج اختفى تماما بعد المبادرة.. التى اختفت معها الرشوة والإهمال والقسوة والضرب فى السجون.

لقد عشت فترة ليست بالقصيرة فى سجن دمنهور بعد مبادرة منع العنف ورأيت كيف أن الأطباء المدنيين الذين كانوا يأتون من مستشفيات دمنهور الكبرى سببا أحدثوا أكبر نقلة طبية فى تاريخ هذا السجن ومنهم د. علاء الرحال، استشارى القلب المتميز، الذى أنقذ العشرات ود. إليكس حلمى، استشارى الباطنة، الذى كان غاية فى الرحمة والعناية بالمعتقلين.. وكذلك د.عزت نصيف استشارى العيون الذى قام بإجراء جراحات المياه البيضاء وزرع العدسات لبعض المعتقلين.. كما استعار جهاز عمل النظارات بالكمبيوتر من مستوصف الكنيسة بعد أن استأذن الأنبا باخوميوس الذى أذن له وكان المئات من المعتقلين يحتاجون للنظارات.. وأجرى د. محسن عيد، استشارى المسالك، عشرات الجراحات.

وأجرى د/ طارق ميتو، دكتوراة الجراحة، عشرات الجراحات.. أما العميد د/ سامى الكيلانى، الحاصل على زمالة الجراحة بلندن، فهو فارس هذه المرحلة، حيث أجرى مئات الجراحات المعقدة فى كل السجون بكفاءة نادرة، أما د/ بهاء أبوعلو فهو الذى أنقذ عشرات مرضى الربو من موت محقق، أما أ. د/ جابر سعد، فقد أجرى أعقد عمليات العظام فى السجن لكفاءته وحصوله على دكتوراة العظام.. وقد رأيت بعض هؤلاء يتصدق بأجره على الممرضين وبعضهم لا يأخذه.
لقد قارنت فى سجن دمنهور بين حالتين إحداهما قبل المبادرة والأخرى بعدها.. فقبلها كان مدير المستشفى عميد طبيب متكبر متعال كان يوقف المرضى صفا وهم معصوبو الأعين ووجوههم للحائط وكان يستخدم العصا المكهربة أحيانا لضرب المرضى.. إذ أنه كان يعتبر أى مريض الأصل فيه التمارض وكان رجلا ساديا اصطدمت به كثيرا وقد تم إبعاده وتحجيمه بعد المبادرة ليأتى نقيب طبيب شاب لا يحمل عقدا ولا يعرف الأحقاد فقاد هذا المستشفى إلى خير حال.

أما بعد المبادرة فقد مرض الشيخ/ عبود الزمر مرضا شديدا بالليل، وكان يعيش أيضا فى سجن دمنهور، فأمر المرحوم اللواء/ أحمد رأفت ضابطا أن يذهب إلى السجن ويصطحب الزمر فى سيارته الخاصة إلى أى مستشفى.. وكانت الساعة الثانية صباحا فكسر كل القوانين واصطحبه بسيارته الخاصة دون حراسة أو أوراق رسمية إلى مستشفى دمنهور وطلب د/ يسرى نصيف، استشارى الكلى، فقام بعلاجه ثم عاد بعدها بساعات إلى المستشفى.. وهناك حالات كثيرة حدث معها نفس الأمر وذهب للعلاج فى أرقى المستشفيات.

إننى أقررها هنا مطمئن الضمير أن المرحوم/ أحمد رأفت هو السبب فى كل النقلات الإيجابية الخطيرة التى حدثت فى السجون المصرية بعد مبادرة منع العنف ومنها زيارة ما يقرب من ألف معتقل لأسرهم وتطوير منظومة الرعاية الصحية بأمرين مهمين المرونة الكاملة من جانب الأمن وعدم استغلال هذه الرعاية فى أى خرق أمنى من جانب المعتقلين.. فسارت الأمور بين الفريقين على خير ما يرام.

إننا بحاجة ماسة إلى تطوير منظومة الصحة فى السجون والمعتقلات والأقسام.

وقد حكى لى د/ صلاح سلام، عضو المجلس القومى لحقوق الإنسان، أنه دعا كل أطراف الرعاية الصحية فى السجون ونقابة الأطباء والمستشفيات الجامعية والداخلية فحضروا جميعا إلا مديرو الخدمات الطبية فى السجون.. وحضر من الداخلية مساعد الوزير لحقوق الإنسان.. وبذلك فشل الاجتماع.. وقد أقام هذا الطبيب النابه عيادة متكاملة داخل سجن العريش لإنقاذ مرضى الطوارئ السجناء ستفتتح اليوم.

قد يقول البعض أليس الاهتمام بالرعاية الصحية خارج السجون أولى.. فأقول له: خارج السجون يمكن للمريض أن يذهب إلى أى مكان حتى لو كان فقيرا.

أما السجين فلا حول له ولا قوة.. ولا يملك من أمره شيئا وبينه وبين مستشفى السجن ستة أبواب حديدية ولا يستطيع الوصول إليها بعد غلق الزنزانة إلا بمعجزة أشبه بمعجزات الأنبياء.. خاصة فى هذه الفترة.. وآه من مريض سجين لا يجد علاجه أو يمنع عنه أو يتأخر عنه العلاج.

لقد مات بعض المعتقلين فى التسعينات لأنهم ظلوا شهورا لا يأخذون الأنسولين.. وإننى أذكر بالفخر أننى وإخوانى الأفاضل وعلى رأسهم الشيخ/ كرم زهدى لم نغادر السجون المصرية إلا وفى كل عنبر ثلاجة وديب فريزر وغسالة وورش للهوايات.. وفى كل زنزانة عدة مراوح وسخانات وسباكة جيدة ودورة مياه أفرنجى تحفظ للسجين كرامته وآدميته وقدرته على التعايش الكريم.

إنه ملف كبير وصعب ولا يدرى عنه أكثر الناس شيئا.. إننا بحاجة مرة أخرى لتأمل قوله تعالى «ويطْعمون الطعام على حبه مسْكينا ويتيما وأسيرا».. رحم الله كل من أحسن إلى سجين أو معتقل سواء اتفق معه فى الرأى أو خالفه الرأى.. فهذه مسألة أخرى.. ورحم الله أحمد رأفت ورحم الله كل من أحسن إلى خلق الله ليحسن الله إليه.
التعليقات