بعض العبث عندما يتحول إلى نظام حياة أو حتى نظام فقط يساهم حتما فى نشر وباء الغباء ويصبح كالكوليرا أو الطاعون سريع الانتقال من شخص لآخر ومن هم من شارع لشارع ومن قرية لقرية ومدينة لمدينة وبلد لبلد.. هكذا دخلنا جميعا فى شكل من ذاك العبث.. بعضهم يقول ولما لا؟ عندما يستطيع حاكم ذلك البلد الكبير الممتد من المحيط إلى المحيط أن يفعل كل ما يفعله ويحكم بلده ويضع سياساته عبر تغريدات ما هى إلا انعكاس لما وصل له هذا العالم الواسع..
فعندما يلغى التزام بلاده باتفاقية هامة تعنى بتغير المناخ الذى أصبح أكبر مهدد لحياة البشر فى كل بقاع الأرض وخاصة من سكان الدول النامية فيما الدول الصناعية تنشر التلوث، يقع ملايين من سكان الدول النامية ضحية لذاك التلوث إما عبر المرض أو الفقر أو العوز أو البطالة وكلها شديدة الترابط والتأثير على بعضها البعض كعوامل متفاعلة ومترابطة.
ولكن لا يبقى التلوث مرتبطا بالبيئة فهناك تلوث آخر أكثر خطورة ولا يبعد كثيرا عن تلك الخطورة التى تساهم فى تهميش ملايين من البشر.. وذاك تلوث العقول بثقافة معينة أكثرها تساهم فى مزيد من التسطيح والتركيز على السخافات التى لا تسمن ولا تغنى ولا تحمى من جوع!
***
تحملك الأيام فى شهر ديسمبر الشديد البرودة والحامل للعديد من مسببات البهجة لتلك المدينة الشاعرية.. تبهرك أنوار الشانزليزيه رغم أن أصحاب السترات الصفراء كانوا قبل يوم هنا يهتفون ويتصادمون مع الشرطة فى محاولة لرفع الصوت عاليا ضد سياسات اقتصادية مجحفة بحقهم.. نعم التظاهر ليس جريمة فى الدول العريقة وحتى عندما تتحول بعض تلك التظاهرات إلى اشتباكات فلا يتحول المتظاهرون إلى مجرمين ولا يتم اعتقالهم إلا حسب ما ينص عليه القانون بناء على ما قاموا به من تخريب أو تكسير أو أضرار للأملاك العامة..
***
يتسلل برد ديسمبر إلى ما تحت المعطف السميك ويتجمد الوجه إلا أن كل ذلك لا يمكن أن يثنى أحد عن المشى والتجوال بين كثير من الأنوار القادمة احتفالا بالأعياد القادمة فى مدينة الأناقة والحياة والجمال والحب.
تصدمك فى تجوالك تلك المحلات الخارقة للحدود، تلك الحاملة لكثير من التلوث خاصة عندما تتربع بين المقاهى التاريخية الشهيرة حيث كان يحتسى الكتاب والفلاسفة والمثقفون قهوتهم نهارا ونبيذهم فى المساءات الناعمة.. تخرج عليك تلك المحلات للوجبات السريعة لتشوه ذاك المشهد التاريخى. عند دار الأوبرا العريقة أو على حافتها تتسلق يافطة لمطعم للوجبات السريعة كما هو فى الكثير منها حديثة التكوين.. تتذكر عندما انتفض أهالى روما الحديثة على افتتاح ذاك المطعم نفسه عند النافورة العريقة وأرسلوا العرائض واعترضوا إلا أن لا أحد يدرك من هم المستعمرون الجدد وقوتهم على كسر الحدود بل اختراقها على عكس البشر الذين يقفون عند كل حاجز يفصل بين بلد وآخر يستجدون التأشيرة أو الدخول أو ربما الالتحاق بعائلتهم وأحبتهم.. يقف هؤلاء الفقراء الباحثون عن الأمل فى بلد بيعت وعود به فى علب الكوكاكولا أو قهوة الستاربكس!
***
ما أفظع من هذا التلوث وكيف يستطيع العالم أن يخلص نفسه أو ربما أطفاله وشبابه وشاباته من ذاك التلوث.. أجيال لم تعرف سوى مزيد من هذه الأنواع من الملوثات التى لا تبدأ بمطاعم الوجبات السريعة ولا تنتهى عند التشبه بملابس أو أنماط حياة أو أخلاق لا تمت لحضارة وثقافة شعوب شديدة الحضارة وعريقة التاريخ.. حتى أطفال الطبقات الوسطى أو الفقيرة تحولت تطلعاتها إلى وجبة هنا وملابس هناك وعربة فاخرة أو كثير من الكماليات الأخرى عند استلامهم لأول راتب.. التلوث هو أن تنتقل العدوة من دول لأخرى ومن شرائح مجتمعية لأخرى أيضا.. التلوث أن يصبح ابن الفلاح فى تلك القرية المتواضعة الذى يأكل من أرضه يتطلع إلى شريحة من الهامبورجر لا يعرف ما هى المواد التى عجنت بها أو حتى لوجبات أخرى مليئة بالملونات والمواد المصنعة!
***
تتصارع الأسئلة وبرد الليل يشتد وأنوار ذاك المطعم العريق تناديك لتجد كبار السن فقط بينما يتجه الشباب وأبناء المهاجرين من الدول النامية جريا سريعا نحو وجباتهم السريعة والالتحاق بثقافة ما هى إلا كثير من الوهم والتسطيح..