دار فى الأسبوع الماضى نقاش محتدم جدا على صفحات التواصل الاجتماعى بين عدد من السوريين حول أحقية المطبخ الحلبى أو الدمشقى بلقب «أحسن مطبخ فى سوريا»، فالبلد متنوع بمناطقه وعادات مجموعات طوائفه، والمطبخ السورى المعروف بمقبلاته «المازة» وبعض الأطباق الرئيسية كالكبة والمحاشى المختلفة إنما هو أوسع مما اعتاده محبو المطبخ المشرقى، وأنا كسورية تجد نفسها فى المطبخ، على غرار محمود درويش الذى قال «فى الشام أعرف من أنا وسط الزحام» فأقول إننى فى المطبخ «وفى الشام طبعا» أعرف أيضا من أنا، وبما أننى حصيلة زواج بين أب حلبى وأم دمشقية، فقد تابعت النقاش باهتمام شديد واستمتعت جدا بالمداخلات المختلفة التى تهافتت على صفحات الأصدقاء، بدأت المهاترات بما يشبه وصلة طرب حول الكباب الحلبى بالمقارنة مع نظيره الدمشقى «بصراحة فالكباب لحلب» تلتها حلقة مديح فى فتة المكدوس أو الباذنجان «وهى ولدت فى حارات دمشق»، وبينما عدت إلى حارات المدينتين مع شعورى بالهوية المزدوجة وحاولت أن أراقب النقاش بحياد يعطى المطبخين حقهما، دخل على الخط سوريون من مدن ومناطق أخرى أعطت للنقاش طعما مختلفا يذكر بالتنوع بضرورة الاعتراف به واحترامه.
***
فها هو ابن منطقة حوران يذكرنا بكرم حاتم الطائى وبأهمية طبق المليحى باللحم والمنسف عند استقبال الضيوف، وهو شىء غير موجود فى المدن الكبيرة التى تركز على أطباق معقدة أكثر بتركيبتها وأصغر بكميتها. وها هو ابن السويداء يزايد على ابن حوران فيصف طريقة منطقته فى طبخ المليحى أيضا. وها هى بنت الساحل تدخل إلى المائدة طبق البرغل بالحمص وتكاد تعتذر عن بساطة الصنف قبل أن تزيد عليها سيدة من حماة بعض الدجاج طبقا لوصفة تتداولها مدينتها. أما ابن الجزيرة، فبعد أن راقب التصعيد ودخول المجموعات المناطقية المختلفة إلى الميدان، قال بصلابة تتماشى مع طبيعة الجزيرة إن أى مائدة دون الثريد هى مائدة منقوصة.
***
كان ملفتا اشتعال النقاش بهذه السرعة وهذه الطريقة الحيوية مع الابتعاد عن السياسة بمعنى عدم إقحام الأزمة السورية فيه، إلا أحيانا بشكل خفيف، إذ ساد النقاش تلقائية وعذوبة والتزام الجميع بقاعدة ضمنية: سنبقى الموضوع مرحا وخفيفا على القلوب، لن نسيس النقاش حتى لو مارسنا المناطقية، أى دافعنا عن منطقتنا أو مدينتنا أو قريتنا. على كل، أى دفاع عن مدينة أو قرية أو منطقة فى سوريا اليوم، وبعد سبع سنوات من الحرب، لا بد أن يحمل معه إشارة حتى لو خجولة إلى طائفة أو طبقة اجتماعية، وهما من الأسباب الرئيسية برأيى لاندلاع الحراك الذى أفضى إلى الحرب فى سوريا، لو تغاضينا عن ادعاءات المؤامرات الخارجية التى يراها البعض وراء ما حدث فى البلد.
***
أنا أنظر إلى عائلتى، فوالدتى من دمشق ووالدتها، أى جدتى من داخل السور، وهو تعبير يطلقه بعض الدمشقيين ممن يصرون على التذكير بأنهم من وسط عاصمة الأمويين حين كانت لها سور يفصلها عن الريف خارجها. طبعا دمشق التى عشت فيها كانت أوسع بكثير من دمشق تلك التى كانت داخل الأسوار. من الناحية الأخرى فوالدى من حلب ووالدته، أى جدتى الثانية من حماة، وقد تزوجت إحدى عمات أبى رجلا من حمص، وتزوج عمه سيدة من طرطوس. لا أعرف إن دخل على العائلة من الطرفين مدن أو مناطق أو طوائف أخرى، ولست الآن بصدد سرد الحكايات التى قد تبدو ساذجة عن التعايش بعد أن أمطرت سماء سوريا دما على السوريين جميعا. أنا أصلا لست مقتنعة بأن التعامل مع التنوع يجب أن يكون من خلال سرد أمثلة عن الأعياد المختلفة ووصف الفسيفساء السورية كما يحلو لكثيرين. لست أيضا من هواة عبارة «مهد الحضارات» فالمهد لم يعد يعنينى اليوم طالما أنه تم تدميره بمن فيه، إذ التدمير أصبح بنظرى دليل على أن الحضارات لم تتأقلم مع الحداثة ومع مفهوم الدولة الحديثة التى تضمن لجميع أباءها وبناتها الحقوق ذاتها بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمناطقية.
***
أخشى أن يكون الوقت قد مضى على إمكانية لملمة الأشلاء السورية والتئام جراح أبنائها. قد نرى أحيانا بعض العزاء فى الإشارة إلى الجار الكردى والصائغ الأرمنى والطبيب المسيحى والصيدلى اليهودى وغيرهم ممن شكلوا المجتمعات السورية المختلفة وملئوا صفحات كتب التاريخ وذكريات من سبقنا من أجيال. فالذاكرة خصوصا الشفهية للكثيرين تحتوى على قصص وحكايات مريحة للقلب فى وقت لم يعد واضحا أى مستقبل ينتظر بلدا خرج أكثر من نصف شعبه من بيته. لكن للأمانة يبدو أن الكثيرين ينتظرون أى فرصة للدخول فى حلبة نقاش محتدمة حتى يعيدوا التواصل مع من توقفوا عن الكلام معهم بسبب الحرب. يبدو أن حديث الطعام والمطبخ ما زال يجذب سوريين من خلفيات سياسية وطائفية ومناطقية مختلفة فيعيد لهم بعض الحماس الذى فقدوه من جراء انسداد الأفق السياسية وهول الأوضاع الإنسانية لمن فقد سقفه وأعضاء عائلته.
***
كانت فقرة ملطفة تلك التى دارت بشكل افتراضى بين مجموعة سوريين الأسبوع الماضى، كانت فقرة مخدرة لآلام يبدو أن لا نهاية لها. كان سؤالا فتح الباب على مجموعة كبيرة من القصص العائلية والطرائف الفردية. كان وقتا مقتطعا من مأساة لم أتخيل يوما أن تطال بلدى بهذا الشكل. فعلا للمطابخ سحر وللطباخين عصا سحرية يجذبون بها القلوب.
كاتبة سورية