تتزامن أخبار المعارك فى حلب وأخبار عواقبها الإنسانية المفزعة مع تزايد فى نشاط بعض السوريين، لاسيما من هم أصلا من حلب، فى نشر صور عن مدينتهم الرائعة. الصور جلها قديم، من عقود وأزمنة مختلفة تظهر جمال المدينة وازدهارها، وآثارها وقلعتها وأسواقها المغطاة والتى يُقال أنها أطول الأسواق القديمة فى العالم.
يجاور هذه الصور على شبكات التواصل الاجتماعى وشاشات التليفزيونات صور دمار وحطام لا يمكن للسورى أن يتصور أنه فعلا حل ببلده بهذه الطريقة، فحلب هى أكبر مدينة سورية وإحدى أقدم المدن المأهولة فى العالم إن لم يكن أقدمها كما كان السوريون من أصول حلبية يقولون بفخر، وقد تعاقبت عليها حضارات عديدة مثل الآرامية والآشورية والفارسية والهيلينية والرومانية والبيزنطية والإسلامية، حتى برزت كعاصمة للدولة الحمدانية فى العصر العباسى، وأصبحت بعد ذلك ثالث أكبر مدينة عثمانية بعد إسطنبول والقاهرة، متربعة على عرش طريق الحرير كمحطة أساسية ونهائية فى طريق يمر بين آسيا الوسطى وبلاد ما بين النهرين، فيصل بين الصين وأوروبا. يستريح فيها الرحالة ويحملون عرباتهم بالبضائع المختلفة، فالحرير من إيران والبهارات من الهند، والقطن والصوف وصابون الغار تنتجها الأيادى الحلبية وترسلها للعالم، فحلب مدينة تجارية جذبت إليها سكانا من معتقدات وأعراق مختلفة على مدى التاريخ، واختلطت فيها الديانات والأعياد والرموز.
***
أتخيل المدينة القديمة التى انبرت شوارعها تحت أقدام المشاة وحوافر الأحصنة التى كانت تجر العربات المحملة بالحرير والفستق والصابون، تلك المدينة التى صنفتها منظمة اليونيسكو مع مجموعة التراث العالمى عام 1986. أسمع الأذان من المسجد الأموى الذى لا يقل أهمية أو جمالا عن رديفه فى دمشق. أرى مشاهد من حلب وأنا أجلس فى القاهرة مع والدى وصديق للأسرة، كلاهما من حلب ويتحدثان فيما بينهما بلهجة مدينتهما الخاصة، المعروفة عند باقى السوريين بثقل مخارج حروفها بالمقارنة مع اللهجات السورية الأكثر دلعا كاللهجة الحمصية، أو الأكثر موسيقية كلهجة أهل الساحل. أستمع إلى حديث بين الرجلين عن تلك المدينة التى كنت أزورها فى المناسبات السعيدة وأحيانا الحزينة، فأفرح وأحزن مع أفراد عائلة والدى، ثم نعود إلى دمشق حيث عائلة والدتى. يستحضر الرجلان أسماء مناطق وأشخاص رحلوا، فيسأل والدى عن بيت موسيقى فرنسى عند باب قنسرين، وهو أحد أبواب حلب القديمة، وقد كان المنزل مكانا يلتقى فيه محبو حلب والموسيقى الصوفية. يصمت الصديق الحلبى وفى صمته ثقل موت حلب البطىء، ثم يطغى على صمت الموت دندنات على العود تأتينى من مكان بعيد فى رأسى. أنظر إلى والدى فأراه شابا يافعا يخرج من كلية الهندسة فى حلب حاملا مسطرة طويلة ودفتر رسم. «يا رايحين لحلب حبى معاكم راح... يا محملين العنب تحت العنب تفاح».
تربى والدى فى بيت على رأسه أب مثقف شاعر علمانى الهوا، وجَد يخطب الجمعة ويؤم صلاتها فى مسجد حلب الكبير ويدرس طلابه فى جامع آخر كبير هو جامع العثمانية فى حلب. تعلم والدى فى مدرسة الرهبان الماريست «الإخوة المريميين»، فدرس المواد جميعها باللغة الفرنسية، وأشرفت على تربيته مع إخوته مربية حلبية يهودية، كان ذلك فى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضى. عاش الجميع فى بيت واحد وتعلموا أن لكل شخص خصوصيته ودينه ومعتقداته، وامتزجت قصص الأنبياء التى حرص الجد الأكبر أن يشير إليها ربما يوميا بقصص الميلاد والقيامة التى كان يأتى بها والدى من المدرسة، واختلط كل ذلك بشعر والده الذى كان ينظمه وينشره فى الصحف الأسبوعية آنذاك.
***
أنسل من جسدى ومن جلسة القهوة فى القاهرة، أترك والدى وصديقه هناك وأحوم فى السوق المسقوف، أتبع رائحة التوابل فأمشى وراء أنفى. أقف فى طريقى فى سوق العطارين وسوق السقطية وخان الصابون، أتلمس تلالا ملونة من البهارات وأشترى بعضها. أتمشى وحدى فى طرق ملتوية وضيقة، فى وسطها أماكن مكشوفة تدخلها الشمس لكن معظمها مغطى، تتدلى من على أطراف المحلات بضائع متعددة ملونة، وتختلط فيها نداءات الباعة مع محاولات المشترين بالفصال فى الأسعار.
فى حلب يرضع الطفل الموسيقى من ثدى أمه، فيخرج إلى الدنيا وفى قلبه مكان خاص للموشحات والقدود، قد يرفضها فى صغره لكنها تعود فتتملكه عند الكبر فتراه يدندن «آه يا حلو يا مسلينى، ياللى بنار الهجر كاوينى» أو تراه يتمايل خلال جلسة روحية على نغمات «اسقى العطاش.»
***
حلب مدينة الأسرار، شوارعها لا ترمى بحكاياتها للمارة، بل يترجاها الزائرون أن تفتح لهم أحد أبوابها العتيقة. حلب مدينة تنتظر أن تكتشف من جديد من قبل زائريها الجدد والقدامى، ترمى بشباكها على فريستها بأناقة وبعض التكبر. متعالية فى جمالها، واثقة من مكانتها، تجذبك كما جذبت عرائس البحر أوليسس فى القصة الإغريقية، فسكن صوتهن فى قلبه ووجد نفسه يتوجه إلى حيث تقمن دون قرار واع منه. حلب عروس لم ترضَ أن تكسب أختها الأصغر لقب العاصمة فتألقت لتشوش على زائريها اعتقادهم أن دمشق أجمل مدينة سورية. تكحلت بالأرمنى وتزينت بالعربى وعطرت نفسها بالفرنسى حتى بات من الصعب تفكيك هويتها المركبة. حلب مدينة الألف قصة وقصة، أصبحت اليوم مدينة ألف موت وموت، حتى بات شعار الحلبى اليوم «سيبونى يا ناس، فى حالى فى حالى، أروح مطرح ما روح»، فيرد عليه آخر «سكابا يا دموع العين سكابا، على شهدا سوريا وشبابها».