نشر مركز الحوار العربى بواشنطن مقالا للكاتب ساسين عساف ــ وهو كاتب لبنانى وعميد سابق لكلية الآداب والعلوم الإنسانية فى الجامعة اللبنانية ــ يتناول فيه الواقع السياسى اللبنانى المتأزم وممارسات السياسيين اللبنانيين الذين يزيدون الوضع تأزما.. نعرض منه ما يلى.
يقول الكاتب إن لبنان يقع فى قلب الصراع الجيوسياسى الدائر فى المنطقة بين القوى الإقليمية والدولية، وخاصة بين إيران والولايات المتحدة إلى جانب الدور الفرنسى، وأصبح مصيره فى يد من ينجح فى رسم خرائط النفوذ فى المنطقة.
هذا الواقع اللبنانى يشهد أعلى درجات التأزم السياسى، فمن اللبنانيين من يطالب بعقد مؤتمر دولى ترعاه الأمم المتحدة لحماية الدولة اللبنانية من الانهيار، ومنهم من لا يجد فى تدويل الأزمة سوى مزيد من التعقيد. هذا التناقض الشديد بين وجهتى نظر كل من هذا الفريق وذاك لا ينبئ بإمكان التوصل إلى تفاهمات ممكنة ومرضية.
يشير الكاتب إلى اختلاف رد فعل اللبنانيين تجاه المبادرة الفرنسية؛ فمنهم من تلقفها بمنهج الاستيعاب لا التصادم محتفظا بما له عليها من ملاحظات لانتداب يأتيها بحلة جديدة، ومنهم من وجد فيها محاولة انعاش للاهتمام الدولى بلبنان بعد أن فشلت سياسته الخارجية فى الحفاظ على صداقاته الدولية ما كان له أن يعيد فى رأيهم قدرا من التوازن بين القوى. ولكن الانشطار الحاد فى ما بينهما منعهما من تحقيق إنجاز أولى يقتصر على تشكيل «حكومة مهمة» لفترة زمنية محددة ما يعنى أن الصراع على تحديد موقع لبنان الإقليمى والدولى ما زال على خط التوتر العالى، وهو يتجاوز بأشواط عدد الوزراء ومواصفاتهم و«الأثلاث» الضامنة أو المعطلة أو الحاكمة فى أزمنة الفراغ الدستورى.. المنتظر.
***
هذا الصراع الحقيقى يتمظهر فى الواقع السياسى اللبنانى بأشكال مختلفة تنطوى على أسباب نزاعات مستمرة، يتوقف الكاتب عند ما يتصل منها بممارسة معظم السياسيين اللبنانيين، الحكم والسلطة وإدارة شئون الدولة والناس:
ممارسات تخالف الدستور، والقرارات الأساسية تطبخ خارج الأطر والمؤسسات الدستورية، تنازع صلاحيات وتثبيت أعراف تلغى مواد دستورية ميثاقية.
إدارة الشئون العامة بعقل تسلطى استئثارى مصلحى خاص فتتفاقم ظاهرة الفساد والإفساد فى شتى مفاصل الإدارات والمؤسسات العامة.
استخدام القوات المسلحة والأجهزة الأمنية فى قمع الحراكات الشعبية.
التعدى على استقلالية القضاء وعدالة أحكامه.
تقاسم المغانم والغنائم والأسلاب وتأمين سبل الرفاه المفرط، وتكديس المال المنهوب وتهريبه إلى المصارف الأجنبية، أما أمن المجتمع الغذائى والصحى والتعليمى والمعيشى فهو خارج جدول أعمال السياسيين واهتماماتهم.
سحق الفقراء سمة من سمات أفعالهم الحقيرة كتسليم رقاب الفقراء لحيتان مال لا تشبع بدءا بتجار محتكرين، هم أقرب إلى اللصوصية منهم إلى تجارات الربح الحلال، وانتهاء بمصارف نهابة، هى أقرب إلى حوانيت الربا منها إلى مؤسسات تنمية وخدمة اقتصاد وربح مشروع (سأل الرئيس ريغان الأم تريزا: كيف لكم إشباع الفقراء؟ فابتسمت له وقالت: قد نستطيع إشباع الفقراء ولكننا لا نستطيع إشباع الأغنياء).
تشكيل ائتلافات مصلحية تختبئ فى ظلها كل العصابات اللاعبة على وتر العصبيات، تجمع بينها شهوة السلطة والمال وتفرق بينها وسائل النهب، ومنها السلبطة على وزارات تبيض ذهبا.
عدم إقرار أى سياسى (أو مستشار) أنه ليس دائما على حق خصوصا فى فهم المسائل الدستورية وتطبيقاتها (الاعتراف بالخطأ ليس اعترافا بغباء بل نعمة يفتقدها الأغبياء).
فقدان الضمائر الموجعة، والتاريخ يعلم أن فقدان الضمائر الموجعة لا ينتج سوى الكوارث والنكبات.
إصابات بمس من جنون العظمة (تعظيم الأنا وجعلها كوكبا فى ذاته) يأبى من نالت منهم أن يدمر نفسه ما لم يدمر ما حوله، وهذا تصرف من مسه هذا المرض عبر التاريخ من زعماء وقادة شعوب.
عدم المعرفة بالتاريخ ومعرفة التاريخ أساس لمن يمارس العمل السياسى والأكثر أهمية معرفة تحليله والإفادة من مواعظه فكيف إذا كانت المعرفة منتفية أصلا؟!
***
يقول الكاتب إن معرفة السياسيين بالتاريخ مقتصرة على نبش قبوره. سياسيون يجهلون أن نبش القبور يؤدى إلى فتح قبور جديدة، وهم غافلون عما فى ذاكرة الشعوب من حقائق لا تمحى وسرعان ما تخرج إلى الضوء فى الأزمنة الصعبة لتعيد إلى كل سياسى تركيب صورته النمطية الكامنة فى الذاكرة فتعى الشعوب إذ ذاك مآسيها ربطا بهذه الصور البشعة.
يستطرد الكاتب قائلا إنه من أجل الهروب من كوابيس صورهم البشعة يهرع السياسيون إلى العناوين الكبيرة (فى رأسها: الحفاظ على حقوق الطوائف، التوافقية، الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان، حماية السيادة، بناء الدولة، الإصلاح ومكافحة الفساد، القضاء المستقل، طاولات حوار، مؤتمرات وطنية تأسيسية!.. ويبقى السؤال الكاذب شاغل بال هؤلاء: أين الميثاقية؟ وعندما تتم الصفقات وتتعادل الأرباح يختفى السؤال).
إيصال الدولة إلى التفكك والانهيار من أهم إنجازاتهم العظيمة، فهم أصلا حولوها إلى مجرد نظام تحاصصى له قدرة عجيبة، بحكم تركيبه الطوائفى، على الجمع بين تناقضاتهم، ثم تفجيرها، ثم امتصاصها من جديد، فتستمر لعبة التخادم بينهم وبينه، تحت عنوان القدرية التوافقية، وحتمية التساكن الجماعاتى، مع الاحتفاظ بالفوارق والتمايزات التاريخية المكتسبة التى تزول بزوال النظام الضامن لها.
انهيار الدولة تعبير عن قضية وجودية كيانية هى قضية وطن صغرته لا بل قزمته جماعات سياسية عجزت تماما عن فهم وجوده وهويته ودوره، وليس ثمة واحدة من تلك الجماعات، مهما ادعت عمق انتمائها إليه، لم تنزع إلى خارج حدوده إما لاستجداء حماية وإما لاستجداء قوة. وهكذا بدت أزماته من صنع بنيه وحلولها من صنع الإرادات الخارجية، فالوطن المستقر هو نتيجة تفاهمات إقليمية دولية ما يعنى أن الوصايات باتت تلازم وجوده.
التاريخ لا يسوغ التنبؤ بالآتى أو التوقع الحتمى لصيرورة الأشياء، فالتاريخ كينونة والكينونة تخضع للصيرورة، والحتميات التاريخية هى نتيجة جدل التناقضات القائمة، وهى لا تستوحى من سياقات التاريخ، فدينامية التاريخ تحول دائم، لذلك لا يعيد نفسه بالصورة نفسها. اللبنانيون يعبرون اليوم فى زمن التحلل الشامل وهى حالة عامة تجتاح مساحة الوطن وساكنيه.
***
يشير الكاتب إلى بدايتين للخلاص؛ فبداية الخروج من هذا الزمن التحرر السريع من التبعية والتصفيق والهتاف للفاشلين والمراهقين والمغامرين والمقامرين والمتاجرين بالطوائف والمحصنين فى قلاع أقاموها من مال المتعبين.
أما الثانية فعودة سريعة إلى انتفاضة المواطنين الأنقياء غير الملطخين بلوثة الفساد السياسى والمالى، وغير الساعين إلى الكراسى الواهية، أصحاب العقول الهادئة والاستجابات الصادقة لإرادة الناس فى التغيير النوعى لواقع الحياة السياسية فى لبنان عنوانه الوحيد دولة المواطنة بشروطها التامة.