الله يسعدك - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 9:40 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الله يسعدك

نشر فى : الأربعاء 17 أبريل 2019 - 10:25 م | آخر تحديث : الأربعاء 17 أبريل 2019 - 10:25 م

بعض العبارات لها أثر ككلمات السر إلى قلبى، تماما كمن يدخل إلى عالم الاتصالات بعد أن يضغط على أحرف هاتفه فيكتب كلمة سر مكونة من 6 حروف. لذا فبإمكان شخص أن يدخل إلى قلبى حين يستخدم عبارات مكونة من كلمتين أو ثلاث، هكذا بسرعة تتلاشى المسافة ويصبح وجهى كشاشة الهاتف الذكى، بإمكان من يقف أمامى أن يقرأه. «الله يسعدك» عبارة أسمعها من أهل فلسطين طوال الوقت فأشعر وكأن كلماتها تربت على رأسى. حين أشكر أحدهم فيرد «الله يسعدك»، حين أنتهى من قصة أحكيها أمام صديق فيرد المستمع «الله يسعدك»، أو حين ألقى التحية على مجموعة سبقتنى إلى مكان اللقاء فترد صديقة «الله يسعدك». كلمتان بمثابة شيفرة سحرية إلى القلب، تقال فيفتح قلبى أبوابه.

***
أن يسعدنى الله يعنى أن أجلس فى شرفة منزلى فى المساء وأسترق النظر والسمع إلى حديث يدور فى الشارع بين شخصين لا أعرفهما إنما أحب قصتهما. أن يسعدنى الله يعنى أن أعود من عملى إلى البيت قبل أن يعود أولادى من المدرسة وأرى السعادة على وجوههم حين يدخلون ويجدونى هناك، خصوصا صغيرتى التى ما زالت تعبر بتلقائية عن عواطفها بينما بدأ أخواها الكبيران بوضع بعض المطبات أمام تدفق عواطفهما. أن يسعدنى الله يعنى أن أتوه فى حارات مدينة عتيقة تختلط فى هوائها رائحة القهوة وأعشاب البابونج المجففة التى يبيعها عطار عجوز، فأرفع رأسى باحثة عن إشارة تذكرنى أين أنا. لقد اختلطت على الأمور ولم أعد أعرف إن كنت فى دمشق أو طرابلس أو القدس التى غنت فيروز عن شوارعها العتيقة حتى تهيأ لكل من سمع الأغنية أنه زارها مرارا.

***
أنا حقا يسعدنى الله فى حارات المدن القديمة، بأحجار شوارعها وأعمدة أبنيتها، بشرفاتها الضيقة التى قد لا تتسع لأكثر من كرسى واحد وطاولة صغيرة. ها هو فنجان القهوة على الطاولة وأكاد أجزم أن صاحبته اشترت البن من دكان العطار العجوز عند مدخل السوق. فى المدن القديمة سحر لا يمكن استحضاره فى أماكن أخرى، هى طبقات من القصص حكاها سكان الأحياء من على شرفاتهم فالتصقت بالجدران حتى قرأها المارة، هى نظرات ألقتها صبايا بدلال مخفى فالتقطها شباب كانوا بانتظار إشارة. هنا من زاويتى حيث أرى وأسمع وأشم القصص، أشعر أن الله فعلا قرر أن يسعدنى.
***
فى أسابيع الربيع الأولى تتحول المدن القديمة تماما بنظرى، فتلبس أساور من ذهب رمتها الشمس على مآذن مساجدها. تلمع أحجار المبانى ويظهر اللون الفيروزى فى أماكن غير متوقعة، أم ترانى أتخيل الفيروزى؟ تغسل آخر حبات مطر الموسم شوارع المدن فتنفجر أشجارها، هنا لون أحمر وهنا أصفر، والأوراق خضراء تتلألأ فى الصباح الربيعى وكأنها عادت إلى الحياة بعد سبات طويل غطى أغصانها بالتراب.

***
حين قال الشاعر ت.س إليوت إن شهر إبريل هو أقسى الشهور، غالب الظن أنه لم يمشِ وقتها فى حارة عتيقة غسلها مطر الربيع فكشف عن جمالها وصباها ودلالها. أظن أنه لم يلحظ الجهنمية التى فردت أذرعتها للمارة وفردت أزهارها فوقهم فسمحت لهم بالاحتماء بها وقت الظهيرة. لم يأكل إليوت كعكة من فرن صغير يسخى صاحبه حين يرش السمسم على العجينة قبل أن يدخلها فى الفرن. لم يقف إليوت عند مدخل سوق طويل مغطى ليسأل نفسه إن كان بحاجة إلى صابون بلدى أو إلى نصف أوقية من القرفة قبل أن يشترى الاثنين. أو ربما لم تنظر جدة إلى الشاعر بحنية لن يجدها سوى عند جدة عتيقة ولم تقل له «الله يسعدك». لذا فشهر إبريل بالنسبة له أقسى الشهور.

***
أن يسعدنى الله هو أن أعرف أن لى فى كل مدينة قديمة صديقا سوف يتظاهر أنه تاه معى فى حارات ضيقة، لكنه فى الحقيقة يأخذنى فى رحلة مدروسة يشاركنى خلالها أسرار بلدته وأهلها. لا كرم مثل كرم من قرر أن يدخلنى إلى حارة حميمة يعرف قصصها وناسها، لا حميمية أقرب إلى القلب من مشوار بعد المطر فى أزقة فتحت أخيرا دكاكينها للزوار، لا صداقة بعد صداقة تكونت أثناء شرح شخص لأسرار لن يعرفها سوى ابن البلد. حين آخذ بيد صديقة وأمشى معها فى حارات تركت على جدرانها بعضا من قلبى، فإننى أربط شريطا مخمليا أحمر اللون بينى وبينها وأتوقع أن لصداقتنا أسسا تستحق أن أحافظ عليها. وإلا فما فائدة أن أكشف زقاقى المتوارى للغريب؟

***
فى المدينة القديمة أسعدنى الله فعلا، فتركت جزءا من قلبى عند زاوية دفن فيها أحد المتصوفين. هناك، ربما فى دمشق أو فى القدس أو فى حلب، تهمس الحارة فى أذنى أن ثمة عجوز يراقبنى بعينيه الزرقاوتين من أعلى شرفة فى البيت، تماما كما أفعل أنا حين أراقب المارة من شرفة بيتى. أرفع رأسى فأراه، «مرحبا عمى» أقول. ويرد هو «الله يسعدك».

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات