نشرت جريدة المغرب التونسية مقالا للكاتبة آمال قرامى عن فرض الحكومة فى تونس على المواطنين/ات الالتزام بالظواهر واشتداد المراقبة عليهم فى نهار رمضان.. نعرض منه ما يلى.
أضحى الربط بين «رمضان»، وهو شهر يمارس فيه المؤمنون/ات طقس الصوم، ومصادرة الحريات الفرديّة عضويّا؛ إذ لا يكاد يمرّ «موسم رمضانيّ» دون حدوث انتهاكات للحريّات الفرديّة، إن كان على المستوى الفرديّ أو الجماعيّ أو باسم «دولة القانون» التى يبدو اليوم، أنّها لا تستأسد إلاّ متى تعلّق الأمر بامتيازات الحزب الحاكم أو مصالحه أو رؤيته لإدارة الشأن العامّ وتصوّره للدولة. فقيادات النهضة وأتباعها لازالوا يصرّون على اعتبار الدولة التونسيّة «دولة مسلمة» وفق تأويل مخصوص للفصل الأوّل من الدستور، ومن هذا المنطلق لابدّ أن تشتدّ المراقبة على التونسيين/ات فى هذا «الشهر الفضيل»، حتى يكونوا «مسلمين/ات سلوكيين/ات»، بل إنّ تضييق الخناق على غير التونسيين صار مبررا ولكن حسب استثناءات.
ففى صفاقس ألقى القبض، منذ أيام، على مجموعة من «الأفارقة» لم ينضبط أفرادها للنظام العامّ ولم يراعوا مشاعر المسلمين. ولذلك صار انتهاك حقوق النيجيريين والماليين والصوماليين ــ مشروعا ماداموا يعيشون بيننا فإمّا الانضباط أو السجن. أمّا الأوروبيون والأمريكيون وغيرهم من أصحاب الجنسيات «المميّزة» فحقوقهم محفوظة مادامت بلدانهم تمنحنا القروض والهبات وتساعدنا على تجاوز الصعوبات. والواقع أنّ حملات «قنص» المفطرين وإنزال أشدّ العقوبات عليهم لا تخصّ تونس فقط. ففى المغرب والكويت وغيرها من «البلدان الإسلامية» يواجه المسلمون/ات غير المتدينيين واللا دينيين وغيرهم ترهيبا لا غاية له سوى امتثال الجميع لقواعد ضبط سلوك يتماهى مع ما أقرّه «الإسلام».
إنّ ما يسترعى الانتباه فى تجليات الضغط الممارس على المواطنين/ات فى هذا الشهر بالذات هو هذا الطابع القسرى الذى تمارسه مجموعة تتموقع باعتبارها «مالكة الحقيقة» وصاحبة التأويل «الشرعيّ» والوصيّة على الإسلام وممثّلة الأغلبيّة ولذا فإنّ من حقّها أن تفرض تصوّراتها ورؤيتها وأشكال تنظيم المجتمع والعلاقات على مجموعة أخرى ترى أنّها لا تمثّل إلاّ أقليّة فى مجتمع أغلبيّته مسلمة. ولا يخفى أنّ هذا التموقع لا يعكس الواقع بقدر ما يعبّر عن سياسات للشأن العامّ أقلّ ما يقال عنها إنّها تسلّطية وتستند إلى أنظمة الهيمنة التى تتوسّل بالقوّة من أجل فرض ما تعتبره الأفضل والأصحّ والأجدى..
وبالرغم من غياب الدراسات الميدانية والإحصاءات العلميّة حول عدد المسلمين والمسلمات فى تونس وعدد الملتزمين/ات بأداء كلّ الشعائر أو بعضها، وعدد اللا دينيين/ات وعدد المتحوّلين/ات من دين إلى آخر، ومن مذهب إلى آخر فإنّ الخطاب الرسميّ لا يزال يستعمل نفس الجهاز المفهومى القديم والمعجم التقليدى الذى يعكس الرغبة الشديدة فى تنميط المجتمع وطمس أشكال مختلفة من التديّن وتغييب التأويلات التى صار يقدّمها عدد من التونسيين/ات حول ممارستهم أو عدم ممارستهم للشعائر، والتى لا تتقيّد بالضرورة بما يقدّمه المفتى أو الإمام أو الداعية من نصوص وحجج وبراهين. إنّها رؤى تعبّر عن شرائح من التونسيين/ات الذين تجاوزا الرياء الدينى والاجتماعى وما عاد يخيفهم الوصم الاجتماعى إنّما صار البحث عن الانسجام والالتزام بالقناعات الشخصية أهمّ لديهم من إرضاء الآخرين.
إنّ سياسة تطويع الجميع لرؤية قوامها الانضباط والامتثالية والتنميط لا الإيمان والاقتناع وتحكيم الضمير تفضح الفجوة بين من يضع السياسات وما نُعاينه فى المجتمع التونسى من تحولات على مستوى الأفكار، والسلوك وطرق التعبير وأشكال التعبّد وغيرها. أضف إلى ذلك أنّ هذه السياسة تتعمّد مخالفة فلسفة الدستور وتصرّ على التعامل مع التونسيين/ات لا باعتبارهم المواطنين والمواطنات بل من منطلق الرعايا المطالبين بتنفيذ القرارات والأوامر العليّة.
إنّ حكومة تجبر المواطنين/ات على ممارسة الشعائر أو التظاهر بالالتزام بها أو احترام مشاعر المؤمنين/ات هى حكومة قهرية تسخّر الشرطة وقوّة القانون لضبط الناس والتفتيش فى صدورهم، والحال أنّها عاجزة عن اتّخاذ قرارات جريئة تتلاءم مع السياق.
لا خير فى إيمان يتزعزع برؤية المأكولات والمشروبات والمفطرين والمفطرات وأجساد النساء.. ويستند إلى سلطة الحظر والمنع الخارجية حتى تساعده على الالتزام لأنّه إيمان هشّ لا يتقبّل الاختلاف وهو سنّة الله فى الأرض، ولا يعترف بالحريّة قاعدة للمعاملات، ولا يقوم على قوة استنارة داخلية للإنسان تساعده على صنع وجوده وتقرير مصيره، وتخرجه من الوصاية خارجية.