يجرى الحديث عن أن الرئيس ترامب سيعرض لـ«صفقة القرن» ــ ولو أن أفكارها الرئيسية لم تعد مجهولة ــ خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى الأسبوع الأخير من هذا الشهر، وذلك فى سياق سياسة الصدمات الدبلوماسية التى هى أسلوبه فى الحكم أيا كانت التداعيات أو الانعكاسات لهذه التصريحات (الصدمات).
جملة من المواقف والقرارات اتخذها الرئيس الأمريكى فى طريقه إلى إعلان هذه الصفقة، تكشف للبعض ــ الذى ما زال متفائلا أو مراهنا ــ عن دور «الوسيط النزيه»، وتؤكد للكثيرين رؤيته الاستراتيجية والعقائدية لتسوية النزاع العربى الإسرائيلى.
الرؤية التى تلتقى بشكل كبير مع رؤية واستراتيجية اليمين الإسرائيلى فى شقيه الاستراتيجى والدينى.
يؤكد هذه الرؤية البعيدة لا بل المتناقضة كليا مع المبادئ والقواعد والقرارات الدولية ذات الصلة والإرث الكبير من المرجعيات التى استقرت منذ عقود ثلاث تقريبا، للتسوية الشاملة كلام صهره ومستشاره الرئيسى جاريد كوشنير (نيويورك تايمز ــ ١٣ سبتمبر) الذى يعتبر أن معاقبة الفلسطينيين لا تضر باحتمالات السلام وأنه يجب التخلص من الحقائق الزائفة خدمة للسلام. وهو يتعامل مع القضايا الوطنية بعقلية الصفقات التجارية حسب خبرته فى عقد الصفقات، كما يقول.
فبعد الاعتراف بالقدس الموحدة كعاصمة لدولة إسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، والترحيب بإعلان إسرائيل الدولة القومية لليهود والمنطق العنصرى الذى يحكم هذا الإعلان وتداعياته الخطيرة على المواطنين غير اليهود فى إسرائيل، انتقلنا إلى جملة من القرارات والمواقف التى اتخذها ترامب:
أولها، وقف دعم الوكالة الدولية لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، والهدف من ذلك إلغاء هذه الوكالة لاحقا، فيما يتولى أصدقاء الرئيس ترامب فى مجلس الشيوخ صياغة مفهوم جديد لتحديد اللاجئين الفلسطينيين، ضمن مشروع قرار فى المجلس. مفهوم لا يأخذ بعين الاعتبار أبناء اللاجئ وأحفاده؛ بحيث يصبح هنالك نحو أربعين ألف لاجئ فقط وليس نحو ٥٫٣ مليون لاجئ، أكثرهم موزعون على مخيمات فى الأراضى المحتلة والأردن وسوريا ولبنان.
والهدف من ذلك واضح وهو إلغاء القرار ١٩٤ الخاص بحق العودة والصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة والدفع باتجاه توطين اللاجئين الفلسطينيين فى كل من الأردن وسوريا ولبنان والعراق أيضا، كما أشار إلى ذلك صراحة وزير الاستخبارات الإسرائيلى يسرائيل كاتس مرحبا بما اعتبره مبادرة الرئيس الأمريكى.
ثانيا: دعم موقف إسرائيل فى هدم قرية الخان الأحمر فى شرق القدس والترحيل القسرى لسكانها، وهى التى تربط شرق القدس بالضفة الغربية وبالتالى إقفال خط التواصل الجغرافى الاجتماعى هذا.
ثالثا: إقفال مكتب منظمة التحرير فى واشنطن بما يحمله ذلك من رسائل وانعكاسات على المستويين السياسى والدبلوماسى على العلاقات الأمريكية الفلسطينية.
رابعا: وقف التمويل الأمريكى لمستشفيات ست فى القدس، وما سيتركه ذلك من تداعيات تتخطى الشأن الصحى لتطال مستقبل الفلسطينيين فى القدس المحتلة.
يجرى ذلك فى ذكرى ربع قرن على صدور إعلان اتفاق المبادئ المعروف باتفاق أوسلو، الذى قام على مبدأ المفاوضات الانتقالية والذى من أهم أخطائه أو نواقصه أنه لم يحدد الأهداف النهائية للسلام أى إقامة دولة فلسطينية مستقلة، بل ترك الباب مفتوحا لعنصرى النوايا وتوازن القوى ليحكم مستقبل هذه العملية الانتقالية التى لم تستطع الإقلاع نحو تحقيق السلام على أساس «حل الدولتين»، إذ سمحت لإسرائيل، وهى الطرف الأقوى، باعتماد سياسة استيطانية ناشطة قامت على التهويد الديمغرافى وتهويد الأرض.
ويطرح الأمريكيون اليوم من جديد فكرة الاتحاد الكونفيدرالى الأردنى الفلسطينى، وهو ما يرفضه بشدة كل من الأردن وفلسطين، لأنه يشكل «هدية ملغومة» إلى الأردن منذ إعلانها فك الارتباط الإدارى والسياسى مع الضفة الغربية عام ١٩٨٨: أنه من جديد محاولة لإحياء غير مباشر لمقترح «الحل الأردنى» أو «الأردن هو فلسطين» تحت ضغط الديمغرافيا الفلسطينية، وذلك كبديل عن «حل الدولتين»، وإقامة شبه دويلة فى غزة، التى ٧٠ بالمائة من سكانها هم من اللاجئين، كما يذكر الرئيس الفلسطينى، إلى جانب بعض «البقع الجغرافية» الفلسطينية التى سترتبط بالأردن.
خلاصة الأمر أن صفقة القرن التى لن تجد الإدارة الأمريكية، حتى بين حلفائها العرب من سيمضى فى دعمها، بسبب الانعكاسات الخطيرة لهذا الأمر، هدفها تحقيق حلم إسرائيل الكبرى مقابل حكم ذاتى مشوه للفلسطينيين تحت مسمى الدويلة فى غزة مع بعض فتات الضفة الغربية.
فى حقيقة الأمر، أننا نحن اليوم أمام صفاقة القرن وليس صفقة القرن.