نقطتان وخط وقلب - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 1:15 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نقطتان وخط وقلب

نشر فى : الأربعاء 17 أكتوبر 2018 - 11:10 م | آخر تحديث : الأربعاء 17 أكتوبر 2018 - 11:10 م

ظهرت هذا الأسبوع على يدى نقطتان بنيتان صغيرتان يصعب للعين المجردة أن تراهما. وظهرت أيضا حبتان صغيرتان على وجه ابنى الأكبر الأملس فسألنى عن سبب وجودهما. حاولت أن أشرح له عامل الوقت وأثر الزمن علينا، على أجسادنا وأرواحنا. عشت معه من جديد دخولى فى مرحلة المراهقة التى أتت على وجهى بضيوف غير مرغوب بهم أيضا، وأكدت له أن الوضع مؤقتا ريثما يستقر جسده على حال. أريته النقطتين التين ظهرتا على يدى لكنه لم يرهما.
***
أنا أراهما كما أرى سنوات مضت منذ ظهرت نقطتان على يدى أمى الجميلتين من قبلى. لم أفهم وقتها معنى أن تدق ساعة فى الخلفية لتعلن عن دخول أمى، كما دخولى اليوم، فى مرحلة عمرية جديدة لا أظن أننى جاهزة لاستقبالها. هو ليس موضوع السنوات والكبر والمدخل إلى دهاليز الشيخوخة بقدر ما هو محاولة لتقبل التغيير المستمر الذى لا يظهر أثره بشكل يومى لكنه يفرض فجأة سمة تكون بمثابة إعلان عن حلقة جديدة من المسلسل: متى حدث الانتقال من حلقة إلى حلقة ومن عمر إلى عمر؟
***
يبدو لى الزمن كنقطة الماء الهاربة من حنفية ترفض التصليح رغم محاولات كثيرة لشد المحبس. تهرب نقطة بعد نقطة دون توقف وتقع على طرف المغسلة فتحدث صوتا خافتا ومنتظما، نسمعه أحيانا وننساه أحيانا أخرى. لا يتغير إيقاع نقطة الماء حتى إن استخدم أحدهم المغسلة ثم أغلقها، هى لحظات من الدلف العنيف يعود بعدها الزمن إلى رتابته ونقطة الماء إلى إيقاعها.
***
تنبهت أخيرا أننى أصبحت أعزى من حولى أكثر من ذى قبل، أى أننى أشارك فى مجالس العزاء بشكل يكاد أن يكون شهريا، كما تنبهت أننى لم أعد أشارك كثيرا فى مناسبات الأعراس وحفلات الخطوبة. وتماما كما نبهتنى النقطتان البنيتان على يدى بعدد السنوات المتراكم، أيقنت أننى فى عمر قد تزوج فيه من أراد الارتباط، وبدأ يرحل من تعب من الحياة. بمعنى آخر: أصبح الربيع خلفى.
***
طبعا سوف تهرع صديقتى المرحة لتذكيرى أن الشباب هو شباب الروح، وسوف يصر صديق يحب الحياة أن يقنعنى ألا عمر للحب، وسوف أتمسك بقصص أطفالى وأعيشها معهم علهم يبقونى سنوات إضافية فى عمر الطفولة حتى لو أننى أسرقها منهم بدل أن تكون خاصتى. سوف تصلنى أخبار عن سعادة صديقين يكتشفان الغرام من جديد، وسوف تمسك بيدى صديقة تحب الطرب والموسيقى وتسحبنى معها إلى عالمها العذب. وهكذا سوف تظهر فى داخلى طفلة تدق قدمها فى الأرض احتجاجا على صرامة والديها فى موضوع وقت النوم، وسوف تحرك مراهقة ظهرت أيضا فى داخلى يديها على إيقاع لم أستمع له منذ سنوات.
***
أنظر إلى النقطتين على يدى، كما نظرت من قبل على خط ارتسم على وجهى، أعرف أن ثمة وسائل طبية تجميلية بإمكانها أن تخفى آثار السنوات أو أن تؤخر فى ظهورها قليلا، ريثما أتأكد من جاهزيتى للانتقال إلى الموسم الجديد. أعرف أن بإمكانى أن أتجاهل تماما نقطتين وخط اقتحما حياتى دون استئذان. أعرف أن أكثر الأصدقاء قربا منى هم من تمتلئ قلوبهم بالعواطف وعقولهم بالأحلام، هم يركبون الحياة كمن يركب الموج من على خشبة التزلج فينسابون على الماء ويتهادون مع حركتها. أحب الناس إلى هم من يتهيأ لى أنهم يلتهمون الحياة ويتمتعون بالأحداث ويبكون لقساوتها أحيانا ويقهقهون لفكاهتها أحيانا أخرى. أظن أن من شأن ذلك أن يحفر على وجوههم آثار الضحك والدموع، وأظن أن ظهور بقع على أياديهم ليست سوى برهانا على أنهم عاشوا الحياة كمن يتأرجحون نحو قوس قزح ظهر فى السماء، ثم يعودون وترتطم أرجوحتهم بالتراب، يضحكون تارة ويتألمون تارة أخرى.
***
أنظر إلى وجه ابنى وأتساءل إن كان سيتصالح مع المراهقة، كما أتساءل إن كنت سأتصالح مع الخريف، بألوانه الدافئة وزخات مطره الناعمة، تماما كحبات الماء الهاربة من حنفية الزمن التى لا تتوقف. فى بيتى مراهق وفى داخلى مراهقة تريد أن تنذره أن هذه مرحلة عالية التوتر. فى داخلى سيدة تضطرب لظهور نقطتين وخط فتمد يدها علها تمسك بالمراهقة وتحثها على البقاء سنوات أكثر.
نقطتان وخط هم ما يفصلنى عن ابنى وما يربطنى بأمى وأبى، نقطتان وخط هم آثار الزمن على الجسد، لكن ما هى آثار الزمن على القلب؟ أن يتضخم ليحتوى كمية من الحب لم يكن يتوقعها فى صباه؟ أن ينكمش فيلفظ أشخاصا كانوا يتربعون على العرش لكنه لا يريدهم هناك الآن؟ أن تهدأ طرقاته حين يلتقى بشخص كان قد امتلكه فى يوم ما؟ أن يشعر بالرضا والقناعة فيبطئ من إيقاعه وترتسم على وجه صاحبه نصف ابتسامة؟
***
نقطتان وخط وقلب يخفق، يمكن اختزال حياة بأكملها فيهم، إشارات إلى سنوات من القصص والحكايات والأسفار والغراميات والدموع، ونقطة من الماء تتبع نقطة من حنفية لا مجال لإقفالها تماما، وقد يكون ذلك أفضل، نقطة تحفر قصة، وقصة تحفر خطا فى الوجه وترسم نقطتين على ظهر اليد وتملأ القلب بالحياة.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات