بعد أن وقع السلطان عبدالحميد الثانى على اتفاقية سان ستيفانو كما شرحنا فى المقالة الماضية، فقد أدرك الورطة التى أصبحت الإمبراطورية العثمانية بها، ذلك أن مساحة الإمبراطورية أخذت تتضاءل بعد خسارة بلدان شمال إفريقيا ومصر وأجزاء كبيرة من وسط وشرق أوروبا ووسط آسيا. أمام هذه الخسائر قرر عبدالحميد أن يدعو إلى إنشاء الجامعة الإسلامية لتكون كيانا معبرا عن كل المسلمين حول العالم، كما أنها كانت فرصته الأخيرة لتكتيل المسلمين حوله قبل فوات الأوان.
قام الخليفة بحملة تطهير لكل من شك أن لديه فكرا أو ميلا نحو الثقافة الغربية، وقد شملت حملة التطهير هذه بمساعدة من جهاز المخابرات العثمانى كبار موظفى الدولة والمثقفين والطلبة وأفراد من الجيش والشرطة. كان موقف عبدالحميد من الفكر القومى العربى واضحا، فقد رأى أنه فكر غربى تخريبى يهدف إلى ضرب وحدة المسلمين والقضاء على هويتهم متهما الإنجليز والفرنسيين بتخريب عقول المصريين والشوام عبر نشرهم للفكر القومى!
***
اعتمد الخليفة فى فكرة الجامعة الإسلامية على خمسة محاور رئيسية شكلت سياسته حتى نهاية فترة حكمه بحسب ما أورده الصلابى فى كتابه سالف الذكر فى المقالة السابقة:
أولا: التقرب من العلماء والمثقفين المسلمين، وفى ذلك فقد كان من أكثر الشخصيات التى حاول استمالتها إلى فكرة الجامعة الإسلامية هو جمال الدين الأفغانى، وقد رحب الأخير بالفكرة وتحمس لها كثيرا وكتب عن السلطان عبدالحميد متغزلا فى شخصيته القوية ورؤيته الثاقبة وعلمه الواسع، ولكن ما لبث التقارب وأن تحول إلى خلاف كبير حول شكل هذه الجامعة الإسلامية، فقد أصر الأفغانى على استعادة الديمقراطية وحاول إقناع عبدالحميد بضرورة استعادة دور البرلمان فمن شأن ذلك أن يدمج الشعوب الخاضعة للحكم العثمانى من مسلمين وغير مسلمين، من عرب وأتراك وألبان ويونانيين وأرمن وغيرهم فى عملية صنع القرار ومن ثم ضمان وحدة الخلافة العثمانية، لكن عبدالحميد رفض الفكرة بشدة، حيث لم يرغب أبدا أن يشاركه أحد فى الحكم مدعيا أن الديمقراطية هى وسيلة غربية للقضاء على حكمه، ورأى الاكتفاء بنشر الهوية الإسلامية من خلال التعليم دون أى بعد سياسى! لم يقف الأمر عند هذا النحو، لكنه فعل مع الأفغانى كما فعل مع كل من عارض حكمه ففى مذكراته اتهم عبدالحميد الأفغانى بأنه «مهرج»، بل وادعى أن المخابرات العثمانية حصلت على معلومات تفيد بأن الأفغانى يتعاون مع الإنجليز لإسقاط الخلافة! قام عبدالحميد بتركيز كل السلطات فى يده ولم يقبل أن يكون هناك برلمان نصفه من المسيحيين واليهود كما طالبه الأفغانى! (انظر مرجع الصلابى الصفحات ٣٤ و٣٥)!
ثانيا: التعريب، فقد قام السلطان عبدالحميد بتعريب العلوم وإدخال اللغة العربية كلغة رسمية للحكم بجانب التركية وكذلك التركيز على تدريسها فى المدارس فى سائر أنحاء الدولة العثمانية. فقد رأى عبدالحميد أن اللغة العربية هى لغة القرآن وهى الأقرب لفهم أحكام الشريعة الإسلامية ومن ثم فقد استثمر كثيرا فى تعريب الأتراك وهو ما تسبب فى تزايد الشقاق بينه وبين المثقفين الأتراك وباقى النخبة التركية التى رفضت الاستغناء عن لغتها الأم.
ثالثا: التعليم، فى بداية عهده حاول عبدالحميد إرسال الطلاب إلى أوروبا لتلقى العلوم، ولكنه استغنى عن تلك السياسة سريعا تحت دعوى أن الطلاب الذين أرسلهم إلى أوروبا يفسدون ويشربون الخمر! لكن وبنظرة على نص مذكرات عبدالحميد، ترجمة الدكتور محمد حرب والصادرة عن دار نشر القلم فى دمشق عام ١٩٩١ وتحديدا فى الصفحة ١٨٣ السبب الحقيقى لتوقفه عن إرسال البعثات إلى الخارج وفى ذلك يقول نصا «كذلك بعض الشبان الذين أرسلتهم إلى أوروبا درسوا وتعلموا الثورة الفرنسية ووجهوا اهتمامهم بها، دون أن يدرسوا أسباب انفجار هذه الثورة. وهؤلاء كانوا عند عودتهم إلى البلاد يعتبرون أن حب الوطن هو الدعوة لإثارة الشعب والعمل على تمرده. ولم أكن أسمح بهذا. كانوا فى ذلك الوقت يهاجموننى بمثل ما كان يهاجمنى به أعداء البلاد الخارجيين من وصفهم لى بصفة السلطان الأحمر {فى اتهام له بالدموية} وكنت أمنع انتشار هذه الأفكار التى أتوا لنا بها من الخارج»!
لم يكتف عبدالحميد بإيقاف البعثات الدراسية، ولكنه فرض نظام رقابة صارم على محتوى المواد الدراسية التى يتم تدريسها فى مدارس الدولة العثمانية، فقد أزال منها كل ما يتعلق بالفكر القومى، بل زاد على ذلك باستبعاد كل مواد الأدب الغربى والتاريخ العام، مكتفيا بتدريس التاريخ الإسلامى فقط! كما قام بالتركيز على العلوم الشرعية والفقه ومنع اختلاط الجنسين فى المدارس، وفرض على المرأة الزى الشرعى والذى تمثل فى «النقاب»، وفى ٣ أكتوبر ١٨٨٣ أصدر بياننا حكوميا يعطى المرأة شهرا كمهلة للالتزام بالزى الإسلامى عند خروجها من المنزل، بحيث لم يكتف فقط بفرض النقاب ولكنه أصر على منع النقاب الشفاف، أو النقاب المطرز! وقام بإنشاء قوات ضبطية (أشبه بالشرطة الدينية) للتعاون مع الشرطة النظامية فى ضبط السيدات المخالفات! قبل وفاته بعاما واحدا كتب فى مذكراته سالفة الذكر (ص ١٨٤) مدافعا عن كل هذه السياسات، بأنه كان كالبستانى الذى يحمى الأشجار من الحشرات الضارة (الأفكار الضارة)!
***
رابعا: قام عبدالحميد كذلك بإنشاء مدرسة خاصة لأبناء العشائر والقبائل الكبيرة فى شبه الجزيرة العربية حيث درس لهم فيها بالإضافة إلى الفقه والسنة وباقى العلوم الدينية واللغة العربية، اللغة التركية والفرنسية وبعض علوم الإدارة والمحاسبة تمهيدا لاستمالة العشائر والقبائل العربية لحكمه بحيث يكون أولادهم نواة نخبة جديدة غير علمانية تساند حكمه. كما أنشأ العديد من المعاهد الإسلامية، حتى أنها وصلت إلى افتتاح المدارس الإسلامية فى بكين لخدمة مسلمى الصين.
وأخيرا: فقد عمل السلطان عبدالحميد أيضا على إنشاء خط سكة حديد الحجاز ليصل بين دمشق والمدينة المنورة بطول ٧٦٠ كم لتسهيل حركة التجارة والحج وربط سائر أنحاء ما تبقى من الدولة العثمانية. كانت توجيهات عبدالحميد للجنة الإشراف على المشروع بعدم الاستعانة بخبراء ومهندسين أجانب إلا فى أضيق الأحوال، ومع ذلك لم تستعن اللجنة بأى من الأجانب حيث قام المصريون بالإشراف على المشروع من الألف إلى الياء وبلغ عدد العمال فى المشروع بحلول عام ١٩٠٨ ٧٥٠٠ عامل وتكلف المشروع ما يقرب من ٤.٣ مليون ليرة عثمانية، قام المصريون والهنود بالتبرع بجزء كبير من هذا المبلغ فى حملة تبرعات كبيرة فى مصر قادتها جرائد المنار واللواء والرائد بالإضافة إلى عدد كبير من الأعيان والشخصيات السياسية فى القاهرة والإسكندرية والهند. استغرق المشروع ٨ سنوات (بدأ العمل به عام ١٩٠٠)، ورغم أن الخطة الأصلية للمشروع كانت تقضى بالوصول إلى مكة، إلا أن الشريف حسين حاكم مكة تحت لواء الخلافة العثمانية خشى على حكمه إذا ما وصل المشروع إلى مكان نفوذه، فتوقف الخط عند المدينة المنورة، إلا أن الخط تدمر بشكل شبه كامل مع الثورة العربية التى قادها الشريف حسين ضد العثمانيين فى ١٩١٦.
الحقيقة أن السلطان عبدالحميد كان موفقا فى فكرة إنشاء خط السكة الحديد، وكذلك فى سعيه نحو الاستثمار فى الهوية الإسلامية، لكن أدواته وبكل أسف كانت شديدة التخلف الحضارى، كذلك فإن البارانويا التى أصابته من أى فكرة متعلقة بالغرب (مثل الديمقراطية) أضاعت على الدولة العثمانية فرصة ذهبية لاحتواء مواطنيها، ويا ليته كان قد استمع إلى الأفغانى بدلا من اتهامه له بالعمالة، والقضاء على كل ملامح التحضر تحت دعوى مقاومة المؤامرات الغربية! ما فعله عبدالحميد تسبب فى نفور العرب والمسلمين منه فى معظم أنحاء الدولة، ولم يتبق من الدولة العثمانية مع نهاية عهد عبدالحميد سوى الأراضى التركية الحالية بالإضافة إلى شريط حدودى ضيق فى منطقة الحجاز! فى أثناء كل ذلك كانت الحركة الصهيونية تتحرك بقوة بحملات تهجير لليهود نحو فلسطين وهو ما حاول عبدالحميد مقاومته ولذلك مقالة لاحقة.