حين يخترق اللون البرتقالى السماء منذرا بيوم جديد: هذه معجزة.
حين يسدل الليل ستارته بتأنٍ، أتخيل يدا تسحب القماشة الكحلية فوق الكون وتغطيه قبل أن تطبع قبلة على خده لينام: هذه معجزة.
•••
فى سوق الخضار الأسبوعى يفرش الباعة خيرات الأرض فأتمنى أن أسرق حبة طماطم ناضجة لأشمها وأشم معها الاحتمالات: مقطعة شرائح مع ورقتى ريحان، مقطعة مكعبات عليها زيت الزيتون، صلصة معقودة مع البصل تذكرنى بيوم مدرسة رسمت فيه أشكالا بالصلصة فوق الأرز الأبيض. طماطم وجبنة بيضاء فى رغيف عيش بلدى، ذلك الذى أشتريه من على قفص من القش فى الشارع، وليس ابن الكيس البلاستيكى والعصر الحديث. كل هذه الاحتمالات فى حبة الطماطم؟ معجزة.
•••
رائحة الفانيليا فى المطبخ فى يوم معكر المزاج، وهل من دواء أفضل للمزاج المعكر من حركة الخفق المستمرة حين تلتهم الزبدة السكر ويبتلعا معا البيض قبل أن يرمى الدقيق بحنيته فى الوعاء فيختفى العراك تحت فروة بيضاء وأتذكر منظر الثلج المخدر فى يوم شتوى بارد؟ أثر الفانيليا على مزاجى معجزة.
•••
الصداقات: تلك التى ليست بحاجة أن تدق الباب لتدخل إلى يومى الحزين، تلك الصداقات التى تربط أيامى البعيدة باليوم من خلال اتصال يشبه خيطا ملونا وإبرة تعيدنى إلى أيام ملونة تزيح عنى اللون الرمادى. هذه الصداقات معجزة.
•••
مراهقة ابنى الأكبر، مهما تخيلتها منذ سنوات ومهما حذرنى من سبقنى من الأهل إلى تغييرات ستحدث فى الطفل وفى علاقته مع البيت ومعى، ها أنا أراقب عملية تحول إنسانى أظن أنها هى الأخرى معجزة، وأحاول أن أذكر نفسى أننى سأبقى أمه مهما تغير وسأحبه مهما حاول أن يبتعد أثناء تحوله من طفل إلى شاب.
•••
وجه ابنتى الذى يشبه وجهى وكأننى قررت بنرجسية عالية أن أكرر نفسى دون حياء. النرجسية سيئة وها أنا أعترف أننى أرى نفسى فى طفلة أحملها جزءا من شعورى بالخوف، أنظر إلى إشراقة عينيها وأتخيل أياما كثيرة سوف تشرق علىَّ وعليها، أريد أن أتكور فى ركن من الحياة وأنظر إليها دون أن يقاطع تأملى أحد.
•••
ابنى الأوسط، مع ما تعلمته وأنا أراقب شعور الأبناء فى وسط العنقود. على عكس ما تخيلته فأبناء الوسط يشعرون بأن مكانهم دوما مضغوط. كنت أظنهم يشعرون بفائض من الحب بحكم مكانهم وسط الآخرين إنما يبدو أنهم يشعرون بالفراغ. أنظر إليه وأرى وجه أخى: تحكم الجينات بوراثة الملامح معجزة. أهلا يا أخى الصغير ها أنت اليوم ابنى. أظن أننى كنت قد مارست أمومة مبكرة مع أخى وها هو بادلنى العلاقة بأنه طبع وجهه على وجه أحد أولادى.
•••
فى الأيام الماضية أبطأت قليلا من إيقاعى وأخذت لنفسى ركنا فى الدنيا ألتقط فيه أنفاسى. أحاول التعايش مع تغييرات تحدث فى حياتى فرأيت أن معجزاتى اليومية هى أمتن أطواق النجاة. يقينى أن وجه زوجى يقابلنى فى السرير حتى وسط ظلام الليل فأنا أسمع تنفسه يساعدنى على التنفس حين تنقطع أنفاسى بسبب الخوف. أقوم من مكانى وأتمركز عند النافذة لأراقب طلوع النهار وإشراق الكون قبل أن يستيقظ من فى البيت. آخذ نفسا عميقا أمام وعاء القهوة: أنا متأكدة أن رائحة القهوة سحر يوقظ روحى وينفض عنها عفاريت الليل.
•••
صوت السيارات فى الشارع وأخبار المدن التى أحبها ومشاجرات تصلنى عن انتخابات محلية أو عن أحقية جيرانى بمكان لعرباتهم، كم أحب التفاصيل اليومية وكم أتمسك بمعجزة يوم فيه كل هذه التفاصيل. يقال إن الحياة هى ما يمضى بينما نحاول نحن البشر أن نصل إلى أهدافنا. أنا فى هذه المرحلة أجلس فى ركن أمام الشباك أراقب حركة الشمس وتغير وهجها وانعكاس أشعتها على يومى. لا هدف عندى من مكانى هنا سوى أن أمضى يوما عاديا فأكتب وأسمع صوت أمى وهى تعطى نفس التعليمات وصوت أبى يتنهد بطريقته المعهودة ثم أقف فى المطبخ لتجتاحنى كل المشاعر بسبب رائحة القرفة والبهارات والفانيليا، ثم فأعود إلى مكانى أمام الشباك لألاحظ تحرك الشمس وهى تربت علىَّ من زاوية جديدة. أنتظر الأولاد، أتمشى فى الشارع، أتحدث مع صديقة. ما كل هذا الترف؟ هى تفاصيل للأمل أن يومى سيستمر بمعجزاته الصغيرة.
•••
تفاصيل الأمل كتطريز ملون على خامات شفافة: الحياة رقيقة سهلة التمزق كقطعة من الحرير الطبيعى. التطريز والغرز الملونة تحافظ على تماسك القماشة وتمنعها من التفكك. تفاصيلى اليومية التى قد لا أنتبه إلى معظمها فى يوم مزدحم أصبحت اليوم تطريزا ملونا يبقى على جوانب حياتى مترابطة. روائح البيت والشارع، أصوات العائلة والباعة، تدرج ألوان النهار أمامى حتى تنطفئ فيظهر القمر، هذه تفاصيل الأمل ومعجزاتى اليومية.
كاتبة سورية