الضوء فى هذا الوقت أحلى وأروع من النهار الساطع. ذاك هو الوقت الذى كان يجلس فيه عميد الأدب العربى طه حسين فى حديقة استراحته بمنطقة تونة الجبل الأثرية قبيل الغروب. ينفرد بذاته ويصغى لنفسه ولصوت الطيور من حوله قبل أن يذهب إلى مقبرة إيزادورا القريبة إلى قلبه والتى تقع على بعد خطوات من هذا البيت الصغير الذى بناه له سامى جبرة، وقد صار الأخير مديرا لمصلحة الآثار فى مطلع خمسينيات القرن الفائت، حين كان طه حسين وزيرا للمعارف فى حكومة حزب الوفد.
يرجع الفضل إلى جبرة فى اكتشاف الكثير من كنوز المنطقة منذ الثلاثينيات، بما فيها مقبرة إيزادورا نفسها التى يعنى اسمها «هبة إيزيس». ولا يزال منزله البسيط المحاط بالأشجار يستقبل البعثات الأثرية التى تأتى للبحث والتنقيب. ولا تزال طيور الإيبيس أو أبو قردان تحلق فى السماء ثم تحط على الأشجار، فنلمحها من بعيد وكأنها براعم زهور صغيرة بيضاء. وما زلنا نزور السراديب التى خصصت لتحنيط هذا النوع من الطيور بالإضافة إلى القردة من فصيلة «الرُباح المقدس»، باعتبارهم إحدى تجليات «تحوت» إله الحكمة والكتابة والمعرفة، فقد كان معبود تونة الجبل والأشمونين (هيرموبوليس ماجنا القديمة)، التابعين لمركز ملوى بمحافظة المنيا.
• • •
تعرف طه حسين على قصة غرام إيزادورا، الأميرة البطلمية، ابنة حاكم إقليم إنتينوبوليس أو قرية الشيخ عبادة حاليا، التى أحبت ضابطا من عامة الشعب، خلال القرن الثانى الميلادى، فى العهد الرومانى. أعجب بها عميد الأدب العربى وأطلق عليها «شهيدة الحب»؛ لأنها ماتت وهى عائدة من موعد غرامى على الضفة الأخرى للنهر، بعيدا عن عيون حراس أبيها الذى كان رافضا لهذه العلاقة بسبب التقاليد والفروق الطبقية.
خلال فترات إقامته المتقطعة فى تونة الجبل، كان طه حسين يزورها يوميا عند الغروب.. يدخل إلى المقبرة ويشعل فتيل المسرجة أمام المومياء الخاصة بها التى وضعت على سرير جنائزى، كما اعتاد أن يفعل والد الفتاة بعد غرقها وهى فى الثامنة عشرة من عمرها. كتب هذا الأخير مرثية شعرية باليونانية مهداة لابنته على جدار باب غرفة الدفن، خاطبها فيها وكأنها إلاهة، قائلا: «حور العين هن حقا اللائى شيدن هذه المقبرة لأجلك. حفر النيل تجويفا يشبه المحار الموجود فى أعماقه، واختارت آلهة الجبال هذا الموقع ليكون ملاذا أخيرا لكِ». ظل الأب يبكيها، وقيل إن روحها تعتلى الجبل فى الليالى القمرية، فتحلق بملابس بيضاء على هيئة حورية من حوريات السماء.
ألهمت القصة وطبيعة المكان واحدة من أهم روايات طه حسين وهى «دعاء الكروان» التى كتبها هناك على الأرجح. أراد أن يعبر عن الحب الممنوع، وتضحية النساء من أجله، وثقل العادات والتقاليد، واضطهاد المرأة والثأر والانتقام وثقافة القمع. نُشرت الرواية عام 1934، وتحولت إلى فيلم من إخراج بركات عام 1959، وتم تصوير بعض أجزائه فى استراحة طه حسين، التى شكلت ديكور بيت المهندس (أحمد مظهر) فى الشريط السينمائى. وبالتالى نحن نعرف البيت دون أن نعرف تفاصيل حكايته.
كتب طه حسين: «إنما هو الحب، هو الحب الذى يطمع فى كل شىء ويرضى بأقل شىء، بل يرضى بلا شىء». ثم يتوجه إلى الكروان فيقول «هذا نداؤك أيها الطائر العزيز ما زال مستقلا، سريعا، بعيدا».
• • •
فى الواقع لم أستمع لدعاء الكروان خلال الرحلة التى قمت بها أخيرا، لكن صحبتنى طيور الإيبيس من جبل إلى جبل حتى وصلت إلى جبانة «بنى حسن»، على الضفة الشرقية للنيل، حيث قصة حب أخرى تحدت التقاليد والأعراف فى صعيد مصر، لكن هذه المرة منذ حوالى ألفى سنة قبل الميلاد. نرى حقول المنيا وأبى قرقاص من بعيد ونحن أعلى الجبل، أمام مدخل مقبرة خنوم حتب الثانى، المشرف على الصحراء الشرقية وحاكم مدينة «منة خوفو» القديمة التى اشتق منها اسم المنيا، وذلك فى عهد أمنمحات الثانى، ثم سنوسرت الثانى، من ملوك الأسرة الثانية عشرة.
توضح المقبرة الفخمة التى احتفظت بالكثير من ألوانها ورسوماتها أن صاحبها ارتبط بزواج مصلحة من «خيتى» امرأة نبيلة المولد مثله، فهى ابنة أحد حكام الأقاليم المجاورة، وحظى منها بسبعة أولاد، لكنه أحب «تجاتى» زوجته الثانية التى تنتمى إلى عامة الشعب، وأنجب منها ولدين وبنتا، ومنحها مكانة مرموقة رغم أنف الجميع.
قد لا نلاحظ وجودها مثل «خيتى» أمام مائدة القرابين بالحجم الكبير، لكنها تجلس بجواره على القارب الذى ينقله إلى العالم الآخر، فهى دائما معه تدعمه كما فعلت خلال حياته التى سجل العديد من تفاصيلها على الجدران، من خلال 222 عمودا من النقوش الهيروغليفية تروى أصله وفصله وأعماله، وهى تعد أطول سيرة ذاتية لحاكم أو مسئول بحجمه. كما حرص على تصوير الوفود الأجنبية (على الأغلب الهكسوس، من غرب آسيا)، وربما بعض أفراد قبائل بدو سيناء أو ليبيا، الذين أتوا لتقديم الهدايا، فيما يعرف بلوحة «كارا فان الآسيويين».
ولكى تكون حبيبته «تجاتى» على مقربة منه، فقد جعلها «حاملة أختامه». وهى من أعلى الرتب فى الدولة، فصاحب اللقب يعد مشرفا على الخزانة وممثلا للحاكم، فى حين خلال بعض العصور كانت هذه مجرد وظيفة فخرية دون عمل إدارى فعلى. على كل حال يبدو أنه كان يثق فى رجاحة عقلها وطيبتها، ويُقدّر أن فى تصوره للعالم الآخر ستكون الجنة مقامها، معه بالطبع، كما لو كان على يقين أنه لا مثيل لها فى الأرض وفى السماء.
الطيور البيضاء تطير وتحلق فوق الجبل والنهر. والحقول تمتد على مرمى البصر، وقد حل البنجر مكان قصب السكر لنقص المياه.. هدوء المكان ينتظر أن تملأه قصص أخرى وأنواع مختلفة من الحب والتحدى.