للاقتصاد أسس وقواعد معروفة. هو علم فيه مبادئ ثابتة مثل علم الرياضات والكيمياء، وفيه أيضا مبادئ تحتمل التأويل مثل علم الاجتماع والعلوم السياسية والتى تنتمى لنوعية العلوم الإنسانية أو الاجتماعية Humanities. خلال دراستى الجامعية، أتذكر محاضرتى الأولى (والأخيرة) مع الاقتصادى الكبير المرحوم الدكتور جلال أمين. وجدت رجلا خفيف الشعر أشعثه، يكتب بالطباشير على السبورة ثم يمسح ما يكتبه بيديه ويهيم مفكرا وسط حديثه كأنما يستوعب أفكاره ويحللها لحظيا. كانت لوحة فنية لعبقرى يبدع رسومات لها قواعد شبه هندسية ولكنها أيضا تعكس أوجاع وآمال الإنسانية. من هول هذا المنظر وهيبته خرجت من المحاضرة وقررت إلغاء مادة الاقتصاد من قائمة المواد التى كنت سأدرسها وقتها. وظللت أهاب التعامل مع د. جلال أمين حتى تخرجى ولكن كان لى الحظ أن تتلمذت على يد د. سمير مكارى إحدى علامات تدريس الاقتصاد فى مصر، وإن لم أتخصص فى الاقتصاد كدراسة.
يلجأ العالم الغربى تقليديا للاقتصاديين فى إدارة السياسة النقدية والمالية: «آلان جرينسبان» ومن بعده «بن برنانكى» فى إدارة البنك الفيدرالى الأمريكى، «تيم جايثنر» وزير الخزينة الأمريكى الأسبق بعد الأزمة المالية العالمية ومن بعده الوزير الحالى «ستيف منوشن» كلهم لديهم خلفية اقتصادية. أما فى أوروبا، «جون كلود تريشيه» المحافظ التاريخى للبنك الأوروبى ومن بعده الإيطالى «ماريو دراجى» هما أيضا اقتصاديان. ولكن الآن وفى خضم أكبر أزمة اقتصادية فى التاريخ المعاصر، يشاء القدر أن تكون خلفية محافظى أكبر بنوك مركزية فى العالم غير اقتصادية. ففى البنك الأوروبى لدينا «كريستين لاجارد» وفى البنك الفيدرالى الأمريكى لدينا «جاى باول» وكلاهما يأتيان من خلفية قانونية ممزوجة بالعمل إما فى أروقة الحكومة أو فى البنوك الاستثمارية مثل جولدمان ساكس أو المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولى.
استحضارا لأهمية البُعد الإنسانى فى القرارات الاقتصادية، قام باول ولاجارد باتخاذ إجراءات سريعة وصارمة لمواجهة التأثير المالى والإنسانى لفيروس الكورونا. وبينما تأخرت لاجارد كثيرا فى تقييم قوة الصدمة وعمق تأثيرها فهى رضخت سريعا للموجة العاتية ووصلت سريعا للعبارة التى كنت بانتظارها Whatever it takes، أى أننا على استعداد لفعل «أى شىء» لمواجهة الآثار الكارثية للفيروس. على الجانب الآخر، كان رد فعل باول سريعا ولكن فى رأيى وفى رأى محللين كثيرين وكذلك بعض زملائه فى مجلس الفيدرالى، كان رد فعله أكثر من سريع، فكان متسرعا. مثلا، قد تكون أول مرة فى التاريخ يقوم الفيدرالى بتخفيض نسبة الفائدة مرتين فى اجتماعين طارئين خلال أسبوع واحد تقريبا. وبدلا من أن يترك فى جعبته شيئا من الذخيرة لمواجهة الآثار فيما بعد، قرر أن يقوم باطلاق جميع رصاصاته الذهبية (تخفيض الفائدة) مرة واحدة. وفى غياب رصاصات ذهبية أخرى، لجأ البنك الفيدرالى لآليات لم يلجأ إليها من قبل مثل دخوله مشتريا وضامنا بل ومقرضا فى أسواق المال والدين. وبينما نتفهم صعوبة وخطورة الموقف، فيبدو أن مستر باول قرر تنفيذ أجندة خاصة به وبالرئيس ترامب على حساب سلامة قوانين السوق. التكتيك الذى لجأ له السياسى المحنك هو وضع السم فى العسل: فبينما يعانى الأمريكيون من إمكانية تعطل أسواق الائتمان ومن ارتفاع نسبة البطالة لأعلى معدلاتها منذ الكساد الكبير فى عام ١٩٢٩، أطلق باول عدة حزم بإجراءات استثنائية، بعضها مفهوم لمواجهة خطورة الموقف ولكن كان الغرض الواضح من معظمها هو دعم الأسواق المالية وذلك فيه خدمة ثنائية: أولا لسيرته كمحافظ لم تسقط السوق فى عهده، وثانيا للرئيس ترامب الذى منذ مجيئه للرئاسة الأمريكية يقيس نجاحه بمستوى أداء سوق المال.
على سبيل المثال، يوم الخميس ٩ إبريل، قام باول بإعلان حزمة اجراءات غير مسبوقة فى تاريخ الفيدرالى وكان منها شراء ديون البلديات. فإذا اتفقنا أن الأزمة غير معتادة وتحتاج تعاملا خاصا، فمن الممكن أن نقبل على مضض فكرة ضمان ديون البلديات لكن من غير المفهوم أن يكون من ضمن هذه القرارات ضمان جزء من المديونيات عالية المخاطر للمدينين من القطاع الخاص. بالطبع لم تكن كل القرارات من هذا النوع، فقد كانت هناك قرارات محمودة أيضا وكان عنوانها ضمان سيولة أسواق الائتمان وتقليل تأثر سوق العمل. بالنسبة لى، واضح أن مستر باول السياسى المخضرم، يحاول استغلال اللحظة لتمرير قرارات لا يمكن أن تمر فى ظروف عادية. حتى توقيت اصدار قرارات ٩ إبريل كان بالتزامن مع صدور تقرير البطالة الأمريكية الذى كان يرتقبه الجميع. ومن الواضح أنه كان يعلم أن التقرير سيكون صادما، وبالتالى ستصعب معارضة أية قرارات يصدرها. أما عن سبب اعتراضى على تلك القرارات ــ وقد شاركنى الرأى نفسه عدد من كبار الاقتصاديين ومديرى الصناديق العالمية ــ فهو لأن القرارات المذكورة تقضى تماما على مفهوم «العاقبة الأخلاقية» Moral Hazard. فى عام ٢٠٠٨، احتاج الفيدرالى ووزارة الخزينة الأمريكية عدة شهور ليتوصلا إلى قرارات تقل عن ربع ما قامت به المؤسستان منذ بدء الأزمة الحالية، وذلك بسبب معضلة «العاقبة الاخلاقية» التى أصبحت أهم معايير تقييم الأداء الحكومى فى سياساتها الخاصة بحزمة مساعدات أزمة عام ٢٠٠٨. نوعية القرارات التى صدرت مؤخرا تفيد فى المقام الأول كبار المضاربين والمستثمرين فى أدوات دين أو فى أسهم الشركات عالية المخاطر. ويبدو واضحا جدا أن تكلفة دعم هذه الفئة تفوق بكثير الفائدة المرجوة والمطلوب وصولها للمواطن العادى. هذه هى العاقبة الأخلاقية، وهى عدم وجاهة إنقاذ جهات من القطاع الخاص بسبب آثار قرارات تجارية اتخذوها. عندما ندرس حزمة مساعدات ٢٠٢٠، سنكتشف أن «بيرنانكى» و«جايثنر» والآخرين ممن تعاملوا مع أزمة ٢٠٠٨ كانوا أكثر حكمة وتأنيا وحاولوا جاهدين تجنب القرارات المتسرعة التى قد تفيد ــ ولو بالخطأ ــ الشركات التى شاركت فى صنع هذه الكارثة. فقد أمضوا شهورا طويلة باحثين عن حلول قبل الاضطرار إلى مساندة البنوك والمؤسسات المالية الفاشلة، لدرجة أنهم تركوا «ليمان براذرز» العملاقة تفلس ويتم بيع أصولها بدولار أمريكى واحد، قبل أن يضطروا للتدخل لإنقاذ المؤسسات المالية منعا لانهيار النظام المالى العالمى كله. الفارق بين الاقتصادى والسياسى المحنك واضح. باول يحاول استباق المشكلة بإيجاد حلول عملاقة أيا كان تأثيرها الفعلى وهدفه إنقاذ أسواق المال بأى ثمن حتى لو كان على حساب دافعى الضرائب فيما بعد. كأنه يستخدم مدفعا ثقيلا لاستئصال ورم. أما اقتصاديو أزمة 2008 فكانوا يتعاملون بمشرط جراح.
بعد قرارات ٩ إبريل، اقترح أحد المتعاملين على باول ساخرا أن يقوم بتأميم بعض الأسواق مثل أسواق دين البلديات بدلا من تركه يعمل كأنه سوق حرة بينما هو أصبح أكبر لاعب فى هذه السوق، بعدما خصص له ما يوازى ١٥٪ من حجم أعماله. هو تأميم مقنع قد ينقذ السوق على المدى القريب، لكنه يقتله على المدى المتوسط والبعيد. مساندو قرارات باول وهم كثيرون، بعدد المستفيدين من هذه القرارات، يدعون أنه يعلم متى ينسحب من السوق ليجعلها سوقا حرة من جديد، ولكنى أستدعى هنا المقولة الشهيرة أنه «لا شيء يدوم مثل اجراء حكومى مؤقت». فعندما تدخل أية حكومة فى شىء سيصعب جدا انسحابها منه. وربما كنا لمسنا شيئا من هذا فى برنامج الخصخصة المصرى الذى ما زال مستمرا رغم مرور أكثر من ٢٥ سنة على بدايته. الرجوع عن التأميم أصعب بكثير من قرار التأميم نفسه.
فى النهاية هى قرارات اتخذها سياسى محنك معه رئيس مقبل على سنة انتخابات. هى قرارت تبعد كل البعد عن أسس الاقتصاد السليم وخاصة فى أمريكا بلد الاقتصاد الحر أو هكذا كانت. هى قرارات سيدفع ثمنها الرئيس القادم والذى يخلفه ولكن لسان حال باول وترامب يقول أعطنى عمرا وارمنى فى اليَّم. سنمضى أياما طويلة فى مشاهدة محكمة الرأى العام الأمريكية وهى تحاسب هؤلاء على ما اقترفوه من جرم فى حق السوق الحرة.
تدور المعركة فى الغرب حول حجم الدعم الحكومى والمركزى وطريقة تناوله، أما فى الدول النامية فليست لدينا هذه الرفاهية. بينما أعلن صندوق النقد والبنك الدولى عن بعض المبادرات لدعم اقتصادات الدول النامية، فإن الفيروس يعطينا فرصة لإيجاد حل مصرى خالص قد يجعل لنا الأفضلية النسبية فى اقتصادات ما بعد الكورونا. مصر تبدأ المحنة من وضع مالى واقتصادى أفضل بكثير من مثيلاتها ولدينا إمكانية السبق، الشرط فى رأيى المتواضع هو اللجوء للمتخصصين وخاصة الاقتصاديين القادرين على رسم طريق للخروج من الأزمة يجعلنا فى المقدمة، بل وقد نخرج منها أقوى مما دخلناها نسبة لمنافسينا من الدول النامية المثيلة.