عن الأساس الأخلاقى للرأسمالية - علاء عبدالعزيز - بوابة الشروق
الأربعاء 25 سبتمبر 2024 1:20 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن الأساس الأخلاقى للرأسمالية

نشر فى : الإثنين 18 مايو 2009 - 7:53 م | آخر تحديث : الإثنين 18 مايو 2009 - 7:53 م

 فى بدايات القرن العشرين، نشر عالم الاجتماع الألمانى ماكس فيبر Max Weber أطروحته ذائعة الصيت عن «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»، وفيها حاول الرجل أن يلفت النظر إلى ما يستند عليه النظام الرأسمالى من أسس أخلاقية أرساها المذهب البروتستانتى وفى مقدمتها تمجيد قيمة العمل المنتج، وإعلاء قيمة الوقت، والحض على التخصص وتقسيم العمل، وقبل كل ذلك الحث على الادخار، وهى أمور رأى أنها أعطت دفعة قوية لمسيرة التراكم الرأسمالى على نحو لم يكن ليتحقق فى ظل سيطرة تعاليم مسيحية أخرى سبقت ظهور وانتشار البروتستانتية.

بعد ذلك بنحو قرن سطر أستاذ الاقتصاد الأمريكى ريتشارد هاتويك Richard Hattwick دراسته الشهيرة عن «أخلاقيات الرأسمالية» مستخدما فيها كل ما أوتى من أسباب العلم والبحث الكمى للبرهنة على أن الرأسمالية (بما تتيحه من منافسة فى سوق مفتوحة) تجعل البقاء للأصلح أخلاقيا الذى يثبت لعملائه أنه الأبعد عن الغش والجشع والأقرب للأمانة والصدق.

وعلى مدى المائة عام الفاصلة بين هاتين الأطروحتين لم يتوقف سيل الإسهامات الأكاديمية فى مختلف العلوم الاجتماعية التى ترنو إلى إثبات وتعداد وإطراء المناقب الأخلاقية للرأسمالية. والحاصل أن اضطراد الإلحاح على تبليغ ذات الرسالة بطرائق شتى أثار لدى نفر قليل من الباحثين شكوكا تماثل ما عبر عنه أبوالعتاهية فى مأثورته الخالدة: وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى... وريح الخطايا من ثيابك تسطع.

(2)

من مقتضيات الفهم السليم لتلك المسألة أن يعود المرء لنشأة الرأسمالية (كنمط للإنتاج) وتطورها منذ القرن السادس عشر وما ارتبط بهذه النشأة من تراكم مالى ورأسمالى اعتمد بالأساس على ثلاثة مصادر تحوطها الشبهات وينكرها العرف الأخلاقى. أول تلك المصادر كان الإقراض المالى بفوائد باهظة، وقد كانت مسألة تقاضى المقرض فائدة من المقترض فى هذا الزمان عملا مذموما من الوجهة الأخلاقية وخطية مؤثمة من بابوات كنسية روما وأحبار اليهود على حد سواء (وإن كانت اليهودية اقتصرت على تحريم تقاضى فوائد الإقراض من اليهود وأحلت تقاضيها من غيرهم).

أما ثانى تلك المصادر فتمثل فى ريع الاقطاعيات الزراعية الأوروبية التى فرضت على رقيق الأرض (الأقنان) حياة ملؤها البؤس والحرمان وشظف العيش تاركين رغد الحياة ومراكمة المال لسادة الإقطاع الذين استدعوا مقولات دينية تنتمى لحقبة العصور الوسطى (مضمونها أن الله قد خلق الجنة وادخرها لعبادة الفقراء لتعويضهم خيرا عن صبرهم الجميل على ابتلاء الفاقة) وروجوا لتلك المقولات لضمان تجنب ثورة الرقيق الجائع، وقد كانت أخلاقية هذا الاستغلال المغرض للدين مما يتنافى مع كل خلق قويم.
أما ثالث مصادر التراكم الرأسمالى آنذاك فتمثلت فى النهب المنظم للمستعمرات فى القارتين الآسيوية والأفريقية، وهو نهب بقدر ما ساهم بوفرة وانتظام فى زيادة التراكم الرأسمالى فى أوروبا الغربية عن طريق توسعة سوق تصريف المنتجات وجلب المواد الخام بأبخس الأسعار، بقدر ما اقترن بتبريرات وتسويغات يندى لها الجبين الأخلاقى (سواء منها ما تعلق بادعاءات نشر الديانة المسيحية أو بما أسمى بمهمة الرجل الأبيض فى نشر المدنية بين الشعوب الهمجية).

ومما زاد الطين بلة، أن عوار الرأسمالية الأخلاقى لم يقف عند حدود تلك النشأة المخزية بل تعداها ليصبح خصيصة لصيقة بالنظام الرأسمالى على مدى القرون الخمسة الماضية. فقد برهنت نظرية فائض القيمة أن صاحب العمل لا يراكم الربح تلو الآخر لعبقريته وكفاءته الفذة ولا جراء روح المبادرة والإقدام والاستعداد للمخاطرة التى فطر عليها entrepreneurship، بل لأنه ببساطة يسطو على حصيلة جهد عماله بدلا من أن يؤجرهم عليه حق الأجرة. وتلك مصيبة لها ما بعدها، إذ يؤدى تواصل تراكم الربح المترتب على نزح فائض قيمة جهد العمال من جانب مع ما يترتب عليه من افقار منتظم لهؤلاء العمال من جانب آخر، إلى تزايد الهوة بين المترفين والمعدمين على نحو ينعدم معه أى معنى للعدالة.. ناهيك عن الأخلاق.

(3)

منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية OECD التى تضم ثلاثين عضوا كلها من بلدان الاقتصاد الرأسمالى الموصوفة بالمتقدمة أو الواعدة عكفت على إجراء دراسة استغرقت ثلاث سنوات ونشرت نتائجها فى نهاية أكتوبر الماضى، للتعرف على مآل الفجوة بين الأغنياء والفقراء فى الدول الأعضاء خلال عشرين عاما (1985 ـ 2005).

أتت رياح النتائج بما لا تشتهى سفن الدعاية الرأسمالية، إذ أظهرت الدراسة خمس نتائج خطيرة: أولاها التزايد المضطرد فى حجم الفجوة بين دخول العشرة بالمائة الأكثر غنى والعشرة بالمائة الأكثر فقرا حتى وصلت الى ما نسبته تسعة إلى واحد فى المتوسط (تتزايد النسبة فى بلد مثل المكسيك لتصل الى خمسة وعشرين إلى واحد)، وثانيها بروز هوة تزداد اتساعا بين دخول العشرة بالمائة الأكثر غنى ودخول من يصنفون ضمن الطبقة المتوسطة، بما أسبغ على خريطة الاستقطاب الطبقى فى تلك المجتمعات شكلا جديدا يغرد فيه سرب الأثرياء بعيدا. وثالثها أن ثمة تناسبا طرديا بين اتساع الفجوة بين الأثرياء والفقراء من جانب وتزايد أعداد الفقراء فى تلك المجتمعات من جانب آخر (يشار بالبنان هنا إلى إسبانيا والولايات المتحدة اللتين اتسعت فيهما تلك الهوة وتزايدت فيهما أعداد الفقراء إلى خمس عشرة بالمائة وسبع عشرة بالمائة على التوالى خلال عقدى الدراسة). أما رابع النتائج فتشير إلى أنه على عكس ما كان سائدا فى السبعينيات، أصبحت الآن الفئة العمرية الأكثر تعرضا ومعاناة من الفقر هى فئة الأطفال والشباب، الأمر الذى لا يخلو من دلالات خطيرة بالنسبة لمستقبل تلك المجتمعات.

النتيجة الخامسة (وأغلب الظن أنها الأهم) أن الدراسة ردت على غلاة الرأسماليين الذين يدعون أن تقريب الفوارق بين الدخول ليس أمرا مستحبا لأنه يقلل الحوافز لدى الأفراد للتميز المادى والترقى الاجتماعى، وأن الأفضل من تساوى الدخول هو تساوى الفرص التى تتيح هذا التميز وذلك الترقى، كان رد الدراسة فاجعا عندما أشارت إلى أن غياب المساواة فى الدخول بين الأثرياء والفقراء فى مجتمعات الدول الأعضاء يصاحبه غياب مماثل لتساوى الفرص بين هولاء وأولئك، مدللة على ذلك بأن ما تصل نسبته إلى خمسين بالمائة من فقراء إيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة يورثون الفقر (ومن ثم انعدام فرص التميز والترقى) لأبنائهم.

(4)

بقى أن نشير إلى أن البعض يستغل النقد المستحق لغياب الأبعاد الأخلاقية والتغاضى عن أسس العدالة فى النظم الرأسمالية لتصوير الأمر وكأن هذه هى المشكلة الجوهرية لتلك النظم، والواقع أنه لو كانت مشكلة الرأسمالية تتعلق فقط بتردى «عدالة توزيع ثمار النمو» لهان الأمر، على أن المشكلة أفدح من ذلك بكثير، إذ يبقى جوهر النقد الموجه لنمط الإنتاج الرأسمالى أنه مأزوم dysfunctional تؤدى آليات عمله الى خلق الأزمات الاقتصادية، ثم تسمح مرونته بابتكار مخارج جديدة لتجاوز تلك الأزمات، ثم ما تلبث تلك المخارج أن تتسبب فى أزمات جديدة أعقد من سابقاتها فتبدأ عجلة ابتكار المخارج فى الدوران من جديد... وهكذا.

ترى إلى أى مدى ستظل مرونة الرأسمالية قادرة على أن تعبر بها مزالق الأزمات المتتالية؟ والى متى سيصبر على الرأسمالية أولئك الذين يتحملون رغما عنهم سداد فواتير تلك الأزمات هم وأبناؤهم من بعدهم؟.

التعليقات