الشعبوية: داء العصر - ناصيف حتى - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 5:08 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الشعبوية: داء العصر

نشر فى : الإثنين 18 يونيو 2018 - 9:15 م | آخر تحديث : الإثنين 18 يونيو 2018 - 9:15 م

أصبح العالم اليوم بمثابة مدينة كونية ولا أقول قرية كونية كما يقول البعض، بسبب الصخب والضجيج فى المدينة مقارنة مع الهدوء فى القرية. وذلك بعد أن أسقطت العولمة الجارفة عنصرى المسافة الزمنية والمسافة الجغرافية، بسبب الثورة التكنولوجية وما حملته وتحمله من موجات جديدة من الاختراعات تزيد كل يوم من حجم وكثافة الاتصالات والتفاعلات والتواصل وتنوع الوسائل الحاملة لها.
العولمة لم تقسم العالم إلى دول غنية وأخرى فقيرة، بل قسمت المجتمعات إلى قطاعات، بعضها مستفيد من سلوكه أو وجوده على الطرقات السريعة للعولمة، وبعضها الآخر سقط على قارعة هذه الطرقات وجرى تهميشه.
أمام حالة الانصهار القسرى التى تفرزها العولمة تأتى ردود الفعل عبر الانغلاق والتقوقع وازدياد المخاوف الفوبيا والخوف من المجهول ومن الخسارة المختلفة الأوجه التى يعيشها من دفعت به تيارات العولمة الجارفة إلى قارعة الطريق.
سمح هذا الوضع، لا بل أدى إلى إحياء خطاب شعبوى يلامس العنصرية أحيانا وينطلق منها بخطاب مبنى على التبسيط والاختزال والتعميم وأحيانا على منطق المؤامرة فى التعامل مع قضايا ومشاكل شديدة التعقيد. قضايا ومشاكل لها مسببات يتخطاها الخطاب التبسيطى الشعبوى والمقترحات التى يحملها.
الخطاب الشعبوى ليس خطابا عقائديا، بل هو يعبر ويدغدغ مشاعر الخوف والتخوف والتهميش، ولا يقدم أجوبة واقعية وعملية لمعالجة مسببات هذه المشاعر الحقيقية.
كان الاقتصاد المعولم، بانعكاساته وأكلافه المختلفة بالنسبة للكثيرين هو المصدر الأساسى لتعزيز البيئة التى هى الهدف الأول للخطاب الشعبوى.
ما زاد من قوة الشعبوية أن الديمقراطية الليبيرالية فى الدول المتقدمة لم تستطع أن تعالج الكثير من المشكلات الاقتصادية ذات التداعيات الاجتماعية الخطيرة، والتى بعضها ناتج عن مبادئ وقواعد الليبيرالية الاقتصادية التى أسقطت الحدود أمام جميع أنواع التبادل التجارى والمالى والاقتصادى.
***
الشعبوية موجودة فى أمريكا اللاتينية، وهى موجودة أيضا فى آسيا. ورأيناها فى الولايات المتحدة الأمريكية عبر وصول ترامب إلى الرئاسة، لكن المجال الأوروبى هو مجال الصدمة أو الصدام الأساسى كما هو ظاهر بين العولمة وضحاياها. كل ذلك بسبب الخصوصيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى هذه الدول المتقدمة التى صارت مجتمعاتها تعيش انشطارات وتوترات وخسارات أساسية فى مجال المنافع الاقتصادية والاجتماعية التى كانت تتمتع بها.
من مسببات هذا الأمر، تراجع دور الدولة الضامنة أو الحاضنة الاجتماعية وازدياد تكلفة التوسع الأوروبى ذى الأهداف الاستراتيجية التى لم يكن من الممكن تلافيها وذلك على حساب المجتمعات الأوروبية الغنية أو المستقرة أو مجتمعات ما يعرف بدول الاتحاد الأوروبى القديمة لمصلحة دخول الدول الجديدة التى خرجت أو تحررت بعد سقوط الاتحاد السوفيتى وأوروبا الشرقية. ونحن نرى اليوم انتعاش الانقسام بين شرق أوروبا وغربها. لكن ما زاد الطين بلة، كما يقال، بالنسبة لأوروبا هو اللجوء والنزوح المتزايد والقادم عبر البوابة التركية من الشرق الأوسط وعبر البوابة الليبية من إفريقيا بشكل خاص. مسببات ذلك، دون شك، تكمن فى الحروب بشكل خاص فى الشرق الأوسط، وفى قضايا ومشاكل التصحر والاحتباس الحرارى فى إفريقيا وفى ازدياد البؤس والشقاء الاقتصادى الاجتماعى بسبب الديمغرافية الضاغطة فى كلا الحالتين.
أكثر ما يعبر عن هذه المخاوف والهواجس قول وزير الهجرة البلجيكى أخيرا وتحذيره عبر هذه الكلمات: «إذا لم نتمكن من حل أزمة اللاجئين خلال سنوات فإن الاتحاد الأوروبى سيتفكك». إن هذا التحذير أو هذا الإنذار يحمل مؤشرات على المخاطر التى تعيشها أوروبا كما تراها مجمل القيادات الأوروبية، ولو اعتبر البعض أن هنالك نوعا من المبالغة فى هذا المجال.
***
نرى انتشار الخطاب الشعبوى فى أوروبا من نتائج الانتخابات الإيطالية أخيرا، وقبل ذلك بقليل، انسحاب أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى ثم ما يدل عليه الوضع السياسى فى دول مثل النمسا وبولندا والمجر وهولندا، وبالطبع أيضا ما نراه فى فرنسا وبلجيكا ودول أخرى من اتجاهات مخيفة أحيانا تعبر فى خطابها وفى تعبئتها عن هذه الظاهرة الشعبوية.
بالأمس، كان المصدر الرئيسى الذى يغذى الشعبوية بشكل خاص ناتجا عن العولمة الاقتصادية، ولكن الآن ازدادت المخاوف وتنوعت مصادرها: بعضها يأتى من الآخر المختلف فى الدين والعادات والتقاليد والثقافة، والمختلف أيضا فى اللون والعرق.
وعلينا الاعتراف أن التيارات الإسلاموية الراديكالية التى تدعو فى حياتها وفى سلوكها وفى خطابها إلى قطيعة مع المجتمعات الغربية التى تعيش فيها تساهم فى تعزيز المنطق الشعبوى عند الآخر.
هذا مع التذكير أن خطاب الآخر أحيانا ضد هذه الجماعة المختلفة فى الدين حينا وفى اللون والعرق أحيانا يساهم فى تعزيز المخاوف عنده. إنها باختصار، جدلية الخوف والتخويف وأبلسة الآخر.
نرى اليوم كيف أن الكثيرين فى أوروبا من أصحاب الخطاب الشعبوى يحملون هذه الهجرة عبر البحر المتوسط أسباب التراجع الاقتصادى أو الأزمات الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية التى تنوء تحت وطأتها بعض الدول الأوروبية.
وما يزيد أيضا من انتشار الخطاب الشعبوى بروز التيارات الجهادية الإسلاموية ذات الخطاب القائم على القطيعة مع الآخر، أو إلغائه وإخضاعه، والعمليات الإرهابية التى صارت عمليات معولمة وتقع فى كل مكان فى العالم.
ما نراه اليوم، فى حقيقة الأمر، هو صدام أصوليات، سواء أكانت دينية أم دنيوية، صدام مخاوف وصدام جهالات، كما يسميها كثيرون. والحل لا يكون بالانزلاق إلى هذا المنطق، مما يعزز منطق الصدام الذى يتبناه الآخر أو يتجه إليه الكل أحيانا فى لحظة معينة.
المطلوب العمل على تفكيك واضح وشجاع لمسببات هذه الأزمات المتراكمة فى العديد من الدول وفهم مسبباتها الحقيقية، والعمل على التعامل مع هذه المسببات عبر أشكال مختلفة من التعاون الجماعى.
الانفتاح ومد الجسور نحو الآخر القائمان على معرفة الذات بعقل نقدى، والتعرف على الآخر بعقل منفتح هى الوسيلة الوحيدة لتلافى السقوط فى منطق ذكرنا به صامويل هانتنجتون عندما كتب عن صدام الحضارات، وهو فى حقيقة الأمر كما أشرت، صدام جهالات وصدام أصوليات يدفع ثمنها الجميع، ويساهم فى نشرها وانتشارها الخطاب الشعبوى الذى، بدوره، يتغذى عليها.

ناصيف حتى وزير خارجية لبنان الأسبق
التعليقات