عقد قسم الإدارة العامة الأفريقية The Section on African Public Administration، التابع للجمعية الأمريكية للإدارة العامة American Society of Public Administration، مؤتمره القارى الأول فى مصر، وذلك بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، يومى 6 و7 يونيو الجارى. وجاء المؤتمر بعنوان: «توطين أهداف التنمية المستدامة (أجندة أفريقيا ٢٠٦٣) على المستوى المحلى: التحديات، والدروس المستفادة، وفرص مساهمة الإدارة العامة الأفريقية».
يأتى هذا المؤتمر مع اقتراب مرور عشرة أعوام على إطلاق أجندة أفريقيا 2063، ويتزامن مع افتتاح المؤتمر والمعرض الطبى الأفريقى بالقاهرة، وزيارات للرئيس السيسى إلى أنجولا وزامبيا وموزمبيق.
وهو مؤتمر «قارى» لأنه أول مؤتمر يعقده قسم الإدارة العامة الأفريقية فى إحدى دول القارة، حيث جرت العادة منذ إنشاء هذا القسم فى ديسمبر من عام 2018 على أن ينظم فعالياته بالولايات المتحدة خلال انعقاد المؤتمر السنوى للجمعية الأمريكية للإدارة العامة، وهى أحد أهم التجمعات للممارسين والباحثين والطلاب فى مجالات الإدارة والسياسات العامة.
يرجع إنشاء أقسام فى الجمعية الأمريكية للإدارة العامة تمثل مناطق جغرافية خارج مجموعة ما يعرف بـ«الدول الغربية» إلى منتصف القرن العشرين، وفى عام 1973 تم إنشاء قسم الإدارة العامة الدولية والمقارنة Section on International and Comparative Administration – SICA بهدف تأكيد أهمية الاستفادة من تجارب وممارسات الإصلاح الإدارى فى مختلف دول العالم، وكسر الهيمنة الغربية Western Centrism على حقل الإدارة العامة، وهو الحقل الأكاديمى الذى يركز على دراسة الحكومة من حيث الهياكل المؤسسية، والقوانين والنظم الإدارية، والعلاقات بين السلطات فى إطار صنع وتنفيذ السياسات العامة، إلخ.
ومن هنا جاء إنشاء أقسام للإدارة العامة فى الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وغيرها فى الجمعية الأمريكية للإدارة العامة، تعبيرا عن رغبة الباحثين والممارسين من هذه الدول فى التواصل وبناء القدرات والمشاركة فى تقدم المعرفة والممارسة بالحقل.
• • •
جاء تنظيم هذا المؤتمر، الذى احتضنته القاهرة فى جامعتها الأمريكية، تعبيرا عن عدة توجهات إيجابية ومبشرة بإمكانية خلق تكامل وبناء جسور تواصل بين الباحثين فى مجالات الإدارة الحكومية، ومكافحة الفقر، والتنمية، إلخ. من أبناء القارة الأفريقية، سواء كانوا ينتمون لجامعات بالقارة أو يعيشون ويعملون فى جامعات غربية.
ومن شأن المشاركة فى بناء هذه الجسور تدعيم قوة مصر الناعمة فى أفريقيا وبناء أواصر للتعاون وإدارة النزاعات بعيدا عن السياسة الدولية بتعقيداتها وحساباتها الضيقة.
أول ما ميز هذا المؤتمر أنه قارى ويتبع الأسلوب المختلط فى ذات الوقت، حيث تحتضنه إحدى دول القارة الأفريقية، وهى مصر، ولكن يسمح للمشاركة «أونلاين» للذين يتعذر عليهم الحضور الشخصى، وذلك اعترافا بالضغوط المادية التى صارت تعانى منها عديد من الجامعات حول العالم، وبخاصة من القارة الأفريقية، ما يتعذر معه تمويل سفر الباحثين وأعضاء هيئات التدريس للمشاركة فى مؤتمرات دولية.
ومن هنا جاء قرار اللجنة المنظمة بإلغاء أى مصاريف للمشاركة.
ورغم ضعف الإمكانيات لدى عديد من الجامعات بالقارة، إضافة إلى بعض التعقيدات الإدارية، فقد كان الحضور مرضيا، حيث حضر حوالى 25 مشاركا من المنتمين للقارة الأفريقية، علما بأن عدد أعضاء قسم الإدارة العامة الأفريقية لا يزيد على 50 عضوا، هذا بالإضافة إلى مشاركات من عدة دول أفريقية افتراضيا، وحضور ومشاركة أكاديميين وممارسين وطلاب من الجامعة الأمريكية بالقاهرة وجامعة القاهرة ووزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية.
كما سعدت بمشاركة وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية، الدكتورة هالة السعيد، بكلمة افتتاحية فى اليوم الأول للمؤتمر، ألقاها نيابة عنها السفير هشام بدر، منسق مبادرة المشروعات الخضراء الذكية، وهو ما أعتبره انعكاسا لسياسة مصرية تهتم ببعدها الأفريقى، هذا إلى جانب اختصاص الوزارة فى ملف توطين أهداف التنمية المستدامة، وهو محور مؤتمر هذا العام، حيث تعمل الوزارة على بناء القدرات وتنمية الموارد على المستوى المحلى فى مصر، وبناء أواصر التعاون الدولى فى هذا المجال.
• • •
أعتز بمشاركتى فى تنظيم هذا المؤتمر من خلال رئاستى للجنة التواصل الدولى Global Outreach Committee فى قسم الإدارة العامة الأفريقية. وقد حرصت منذ عودتى إلى جامعتى الأم، جامعة القاهرة، بعد سنوات من الدراسة والعمل بالخارج، على الاحتفاظ بأواصر العلاقة مع الدوائر الأكاديمية الأمريكية من خلال مثل هذه التجمعات، إضافة إلى البحوث والنشر الدولى.
أسعد بإتمام هذا المؤتمر بنجاح قبل مغادرتى لعضوية المجلس التنفيذى لقسم الإدارة العامة الأفريقية، وأتطلع مع زملائى من أبناء القارة والمهتمين بها إلى مؤتمر قارى العام القادم فى إحدى الدول الأفريقية، ربما فى رواندا أو المغرب.
أغادر عضوية المجلس التنفيذى راضٍ عما تم تحقيقه، ومقتنعا بأهمية تخصيص مزيد من وقتى للبحث الأكاديمى والإسهام العملى.
لكننى أعترف أن جزءا من دوافع المغادرة يرجع إلى ضعف التمويل، الذى صارت تعانى منه عديد من الجامعات حول العالم، ومنها جامعة القاهرة.
مرت هذه الخواطر بذهنى أثناء حضور جلسات المؤتمر فى الجامعة الأمريكية.
منذ إعلان مجلس الوزراء قرار تخفيض وترشيد الإنفاق الحكومى للجهات الداخلة فى الموازنة العامة للدولة منذ عدة سنوات، شاملا حظر الإنفاق على المؤتمرات العلمية أو المساهمة فى تكاليف سفر أعضاء هيئات التدريس للمشاركة فى مؤتمرات دولية، صار من غير المنطقى استمرارى فى عضوية أى من الجمعيات العلمية التى أنتمى إليها.
أسعدنى الحظ، مع التأكيد على سخرية القدر هنا، أن وباء كورونا فرض تحويل غالبية المؤتمرات الدولية إلى مؤتمرات افتراضية، ما مكننى من المشاركة «أونلاين» خلال العامين السابقين. أما الآن ومع عودة الحياة إلى طبيعتها، لم يعد هذا ممكنا.
ومع استمرار تقليص الموازنة البحثية، صار استمرار المشاركات الدولية بالنسبة للعديد من الباحثين المصريين أمرا صعبا إن لم يكن مستبعدا. من ناحية، فإن الاشتراكات السنوية صارت مكلفة مع انخفاض قيمة الجنيه المصرى.
وحتى فى حال إمكانية تمويل الاشتراك السنوى بشكل شخصى، سيكون من المتعذر فى الغالب أن يتمكن عضو هيئة تدريس بإحدى الجامعات الحكومية تمويل سفره أو سفرها لحضور مؤتمرات دولية.
ومع عدم التمكن من السفر لحضور الاجتماعات السنوية للمنظمات التى ننتمى إليها، ستكون عضوية مجالسها التنفيذية غير فعالة، فمن غير الطبيعى ألا يحضر عضو المجلس التنفيذى لمقابلة باقى أعضاء المجلس مرة واحدة فى العام خلال المؤتمر السنوى، وسيكون هذا موضع انتقاد من باقى الأعضاء، ولهذا الانتقاد ما يبرره.
لذا قررت أن أقصر مشاركاتى فى ASPA وغيرها من الجمعيات العلمية الدولية على المشاركة الافتراضية، مع تأكيد التزامى بالمشاركة والتعاون متى تمكنت من هذا، وذلك دون التواجد بشكل رسمى فى مجالس تنفيذية.
الموقف لا شك سيكون أكثر صعوبة على الزملاء فى الكليات العلمية، حيث يكون للحضور الفعلى أهمية كبرى للاطلاع على أحدث التطورات فى حقولهم. وبالنسبة لهؤلاء، صار تمويل الأبحاث وتخصيص وقت لها أصعب من أى وقت مضى.
كانت جامعة القاهرة فى السابق تمول سفر أعضاء هيئة التدريس للمشاركة فى مؤتمرات دولية للأساتذة الذين ينشرون أبحاثهم فى دوريات علمية محكمة ذات تأثير معتبر، وبشرط الحصول على الترقيات الأكاديمية فى موعدها. أما الآن، فقد فقدنا هذا التشجيع بسبب ترشيد الإنفاق.
إن قوة مصر الناعمة عبر التاريخ قد ارتبطت بقدرتها على التأثير فى محيطها الإقليمى، ولم يقتصر هذا التأثير على الفن المصرى، بل تعداه إلى تأثير الجامعات المصرية وأساتذتها فى بناء مؤسسات التعليم والبحث العلمى فى محيطنا الإقليمى، ولا نكاد نزور دولة عربية أو أفريقية إلا ونسمع عن أياد بيضاء لأساتذة الجامعات المصريين فى هذه الدول.
فى عصر العلم، ينبغى أن نوازن بين ضرورات الترشيد مراعاة للضغوط الاقتصادية، واعتبارات البقاء فى دوائر التقدم العلمى والمشاركة فيها.
موضوعات البحث العلمى وتمويله والحريات الأكاديمية مطروحة على مائدة الحوار الوطنى، وأتمنى أن تحظى بما تستحقه من اهتمام.
نحتاج إلى إعادة النظر فى مخصصات البحث العلمى والتعليم العالى، وكيفية توزيعها. لقد زادت أعداد الجامعات المصرية، لا سيما الخاصة والأهلية، ومن المهم مراجعة آليات تمويل هذا التوسع وضمان توجيه التمويل الحكومى إلى ما يفيد التقدم العلمى والتعليمى، مع تشجيع مساهمات القطاعين الخاص والأهلى ودخولهما فى شراكات مع الحكومة فى مجالات التعليم العالى والبحث العلمى، والتأكيد على المعايير العالمية للجامعات العاملة فى مصر.
أخشى أن استمرار الضغوط على ميزانية التعليم العالى والبحث العلمى ستفقدنا علماءنا وتحبط باحثينا، وتبقينا بعيدا عن التطور العلمى العالمى.
أتمنى ألا نسحب من الجامعات الحكومية قدراتها البحثية، وننشئ جامعات أهلية ربما لا تكون لديها قدرات بحثية، ومع هذا وذاك، نبطل بعضا من قوتنا الناعمة فى محيطنا الإقليمى.
عضو هيئة التدريس بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة