إعادة الطبيعة البرية للمدن المصرية - نبيل الهادي - بوابة الشروق
السبت 7 سبتمبر 2024 2:57 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إعادة الطبيعة البرية للمدن المصرية

نشر فى : الخميس 18 يوليه 2024 - 8:20 م | آخر تحديث : الخميس 18 يوليه 2024 - 8:20 م

الإعلان عن تطوير حديقتى الأورمان والحيوان أثار لدى الكثير وأنا منهم قلقا بشأن مستقبل تلك الحديقتين، خاصة وأن بهما مجموعة من الأشجار المتنوعة ــ والتى يزيد أعمار العديد منها على مائة عام. علاقتى القوية بالأشجار كتبت عنها بالتوازى مع الحملة الشرسة آنذاك على أشجار القاهرة لتوسعة الشوارع، وأردت أن أدعو أيضا الكثير من الناس وخاصة من منهم فى موقع المسئولية إلى توطيد صلتنا بالأشجار، وكان مقالى «فى محبة الأشجار» محاولة لإيجاد أمل فى ظل التهديد غير المسبوق للأشجار فى القاهرة وغيرها من مدن مصر.
لم أكن ساذجا للدرجة التى تدفعنى للاعتقاد أن مقالى ربما يساهم فى تغيير هذا المسار غير المبرر، ولكننى كنت أرى أن لدى بعض المسئولية فى تطوير النقاش حول الأشجار ليتعدى توجيه أصابع الاتهام وتحميل المسئولية لهذا أو ذاك. كما أن الهدف الأكبر للمقال كان الترويج للرابطة القوية والتقدير العميق لتلك الكائنات الطبيعية لأننا فى النهاية نحمى ما نحب.
مع حديقتى الجيزة والأورمان، لم أكتف بكتابة مقال عن ماضٍ وحاضر ومستقبل الحديقتين، ورأيت أنه من الضرورى القيام برد فعل آخر، وكان أن نظمت ورشة لتوثيق أشجار الحديقتين وجزء من جامعة القاهرة لتكون بداية لمشروع أكبر لتوثيق الأشجار فى المدن المصرية ــ وهو ما كتبت عنه فى مقال «خرائط الأشجار فى المدن المصرية».
حاولت بعد انتهاء الورشة الحصول على تمويل لتنفيذ أول خطوة فى ذلك المشروع، وخاصة بناء المنصة الرقمية التفاعلية للأشجار مستخدما بيانات أكثر من ألف شجرة فى حديقة الحيوان والأورمان وجامعة القاهرة. لكن لم تنجح المحاولة بالرغم من الاستقبال الأولى الجيد من أحد الداعمين المحتملين فى أحد أكبر البنوك التجارية فى مصر. لا أدرى لماذا لم تنجح لأن المقترح الذى قدمته كان يضمن لهم تأكيد ما يزعمونه بالاهتمام بالاستدامة (كونهم أول بنك فى مصر له إدارة متخصصة لها).
وفى محاولة حالية انتهزت دعوة من إحدى المشاركات فى الورشة الفنانة، أمنية صبرى، للمساهمة بصورة بسيطة فى معرضها فى المعهد الفرنسى فى إطار النشاط المسمى صبارات أو فن الصبار، وعاودت العمل على مسودة موسعة لكتيب لورشة الأشجار، وهو الآن فى صورة أقرب للنهائية بانتظار دعما بسيطا لإنهائه ونشره.
كانت هذه الدعوة ليست فقط مشجعة لى للعمل على المسودة ولكن لإعادة التفكير فى الهدف النهائى لمبادرة خرائط الأشجار. وما ساعدنى فى إعادة التفكير أولا استعادتى للمحاضرة الأولى التى ألقيتها فى الورشة ونحن جالسين على أرض حديقة الأورمان والتى أوضحت فيها للمشاركين، وكان فى هذا اليوم أكثر من عشرين مشاركة ومشاركا، أن مصر بحكم الجغرافيا بلد صحراوى تندر فيه الأشجار وأن وجود نهر النيل والوادى الخصب هو ما جعل الحياة ممكنة فيه فى ظل وجود القليل جدا من الشجر. أما شجر الأورمان والحيوان فكان جزءا من مجهود محمد على وأولاده لتحويل القاهرة ومصر لمكان يشبه المدن الأوروبية، والتى بدأت فى عصر النهضة المتأخر فى تشييد المتنزهات وزراعة الأشجار فى الشوارع كما أخبرتنا لاحقا الدكتورة، ريم حمدى، بقصة تلك الأشجار وكما أكدت الأستاذة البريطانية الإيطالية، كارلا، فى محاضرتها الرائعة عن مشروعها لتوثيق الأشجار باستخدام التقنيات المتقدمة من مسيرات طائرة وصور القمر الصناعى باستخدام الذكاء الاصطناعى.
• • •
ما دعانى أكثر لإعادة التفكير فى هدف الورشة ليكون أكثر فائدة لمدننا هو أننى قمت بتدريس مقرر لطلبتى فى جامعة القاهرة عن علاقة العمران بالطبيعة عبر القرنين الماضيين فى مدينة القاهرة. كان التساؤل الرئيسى للمقرر هو أى مستقبل لتلك العلاقة، وهل يمكننا أن نستعيد جزءا من تلك الطبيعة التى توثقها الخرائط وخاصة خريطة الحملة الفرنسية ثم الخرائط التالية حتى منتصف القرن العشرين؟
كانت النتيجة الأولية لعمل طالباتى مرضية للغاية، فهم لم يقوموا بعمل خط زمنى لعلاقة عمران القاهرة بالطبيعة والنيل عبر المائتى سنة الماضية فقط ولكنهن أيضا طورن خيالا خاصا بكل منهن عن مكان فى القاهرة هو ميدان عابدين، وكيف نستعيد الطبيعة البرية فيه.
اقترحت فيروز، وهى إحدى الطالبات، أنه للتغلب على الحواجز المادية وغير المادية التى تفصل الناس عن الطبيعة فنحن بحاجة للتعامل مع الإيقاعات الزمنية. فى نقاشى معها اقترحت أن نستخدم الإيقاعات اليومية مثل الشروق والغروب لنحول الميدان ولمدة ساعة لمكان مفتوح لكل الناس. كما أن بالإمكان الاستفادة بالليالى المكتملة البدر كل شهر لتنظيم فعاليات خاصة بالطبيعة فى الميدان. كان فى خطتها أيضا تحويل الحديقة الحالية إلى مكان منخفض يسمح بتجميع مياه الأمطار لتشكيل بركة مؤقتة شبيهة بتلك التى تم ردمها لإنشاء القصر والميدان، على أن تستخدم فى الأوقات الأخرى لتستوعب احتفالات مختلفة لعامة الناس.
اقترحت زميلتها رضوى أن نستعيد رابطة الميدان مع نهر النيل من خلال تدخلات بسيطة بامتداد شارع بورسعيد (الخليج المصرى قبل أن يتم ردمه فى أول القرن العشرين) تسمح أيضا بتجميع وتصريف مياه المطر وتصفيتها باستخدام النباتات البرية. كما اقترحت أن يتم زراعة أسقف المبانى على جانبى شارع بورسعيد وحتى ميدان فم الخليج بزراعات الأسطح المناسبة والتى سيكون جزءا منها أيضا زراعات برية.
أما زميلتهما الثالثة فاطمة فاهتمت بنوعية النباتات البرية المصرية التى ينبغى زراعتها فى الميدان والموجودة الآن فى محمية سالوجا وغزال فى أسوان، ومنها بعض الأشجار والنباتات المائية مثل اللوتس والبردى.
• • •
استعادة الطبيعة البرية فى القاهرة ليست نوعا من الحنين للقديم ولكن اعترافا بأهمية الطبيعة وخاصة النبات فيها. نعرف مثلا أن النباتات بأنواعها المختلفة سواء أشجار أو شجيرات أو مفترشات للتربة تعتبر المنتج الرئيسى للكتلة الحيوية (الطعام مثلا)، والذى تعتمد عليه باقى الكائنات ومنها البشر لكى تستمر الحياة. مساهمة النباتات تلك تبلغ حوالى ٩٣٪ من إجمالى الكتلة الحيوية. نعرف أيضا أن النباتات البرية أو المحلية طورت عبر آلاف السنين علاقات تكافلية مع الكائنات الأخرى وخاصة الحشرات وهو ما جعل وجود واستمرار كليهما وأيضا الكائنات المرتبطة بهما مثل الطيور ممكنا. وغياب النباتات البرية أو المحلية يعنى تدهورا كبيرا فى التنوع الحيوى وفى النهاية تدهور وسائل الحياة ومواردها الرئيسية وخاصة المياه والهواء والتربة.
هناك بالطبع فوائد يمكن قياسها لاستعادة الطبيعة البرية سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية أو البيئية، ولكن صحة الطبيعة المرتبطة بازدهار النباتات البرية لا يمكن تقديرها بمال لأن وجودنا وجودة حياتنا مرتبط بازدهارها فى المقام الأول.
استعادة الطبيعة البرية فى المدن المصرية مرتبطة باستعادة الطبيعة البرية فى داخل وحواف النهر أولا، سواء بتحويل كل الجزر كمحميات طبيعية وإدماج النباتات البرية فى الزراعات القائمة فيها. كذلك الاستغناء عن المسطحات الخرسانية والمبلطة والكافيتريات واستبدالها بممرات من تربة مدموكة ونباتات برية مثل البردى والبوص واللوتس (لهذه النباتات فوائد اقتصادية بالإضافة لمساهمتها فى تحسين جودة مياه النيل).
يمكن أيضا لمشروعات استعادة الطبيعة البرية داخل المدن أن تحسن من جودة حياتنا وتساهم فى مواجهة التغير المناخى، كما يمكن دمجها فى مشروعات مثل الزراعة الحضرية لتأمين جزء ضرورى من طعامنا، وكذلك ستحسن بلا شك من المظهر الخارجى للعمران الذى نعيش فيه والذى يكاد يصيبنا بالكثير من الأمراض الحسية والعقلية.
منذ آلاف السنين ومع اختراع الزراعة فى مصر يتم تحويل الأراضى المليئة بالنباتات البرية إلى أراض زراعية تزرع بنباتات مستأنسة إلى حد كبير ومما يؤدى إلى تقلص مساحة الطبيعة البرية. وزاد ذلك بصورة كبيرة للغاية فى عهد محمد على وأولاده حيث تم استصلاح ملايين الأفدنة على حساب تقليص المساحات الخاصة بالنباتات البرية والبحيرات والمستنقعات المائية، وصاحب ذلك حركة تصنيع وامتداد سىء كبير جدا وإنهاء الإيقاعات الطبيعية للنهر، وخاصة الفيضان بعد بناء السدود المتتالية منها السد العالى.
• • •
تظهر لنا العديد من الأبحاث العلمية الرصينة فداحة الخسارة فى المساحات الطبيعية كما تظهر لنا العديد من تلك الأبحاث أهمية إعادة جزء من تلك المساحات الطبيعية إن أردنا إيقاف التدهور الكارثى فى التنوع الحيوى الذى لولاه لما استطعنا أن نعيش. نحن أمام خيارات قليلة للغاية يأتى على رأسها العمل بجدية وفورا لإنقاذ الطبيعة وإنقاذ أنفسنا ومن سيأتون بعدنا. فهل سنبدأ العمل أم نظل فى هذا الوضع الكارثى الذى نحن فيه؟
أستاذ العمارة بجامعة القاهرة

التعليقات