أزرع الأشجار أو بالأحرى أتبناها وأربيها، وهى مثل أبنائى وبناتى يربوننى أيضا؛ لأنى أتعلم منهم وعنهم الكثير، وما يصيبنى منها من البهجة يكاد لا يقارن. كان اهتمامى وحبى للأشجار يكاد يكون فطريا أو شخصيا ثم تحول لإعجاب جاد مع الرحلة السنوية الرائعة التى كانت تنظمها جمعية محبى الشجرة فى المعادى، التى بها عملى الثانى فى ربيع كل عام (شاركت فى ثلاثة منها ولكنها فى الغالب وللأسف الشديد توقفت). كان الأشخاص الرائعون الذين ينظمون تلك المسيرة السنوية التى غالبا ما كانت تعقد فى الصباح الباكر من يوم الجمعة وتطوف بمنطقة محددة من شوارع الحى وقد تنتهى فى بيت أحد ساكنى المعادى لنرى حديقته أيضا (وللمعادى فى تاريخها مسابقات سنوية لأجمل حديقة)، وكان أهم ما فى هذه الجولة الضيوف المتخصصين فى البيئة والزراعة والذين يحكون لنا عن الأشجار العديدة التى نقابلها (وما أكثرها)، والمحددة مسبقا على خريطة جميلة توزع على المشاركين والذين يشاركوننا بعلمهم عن كل شجرة ودورة حياتها وازهارها وقصص من تاريخها.
***
فى الشارع أمام بيتى ستة أشجار أغلبهم واحد فى نوعه؛ حيث بدأت منذ سنوات بعيدة فى الاهتمام بالأشجار. وأزرع أيضا الزيتون والرمان. أغلب الأشجار فى أعمار بين الطفولة والمراهقة، وكلهم إلا واحدة أصغر من أولادى. لا أستطيع أن أنسى شجرة الجميز أمام مسجد أبو مندور برشيد وخاصة عندما يستظل بها بعض الزائرين كبارا أو أطفالا. وكلما كان معى طلبتى وصادفنا شجرة جميز ــ وهو حدث شبه نادر ــ أنتهز الفرصة لأحكى لهم عنها وكيف أن أوزيريس خبأت فيها جسد زوجها لتحميه. أحببت شجرة الجميز رغم ما قيل أحيانا عنها، وتمنيت طويلا أن يكون لدى شجرة جميز، وسأحاول أن أزرع واحدة أو اثنتين. أحببتها وهى واحدة متفردة ولم أحبها كثيرا فى بعض شوارع المعادى فهى بالنسبة لى أكثر قيمة من أن تصف كأعمدة الإضاءة. أحببت شجرة من نوع الفيكس وتسمى الفيكس ريليجيوسا، خاصة بعد أن سمعت حكايتها مع بوذا، وكيف كان يستخدمها لكى يستظل بها ويحاور تلاميذه وهى شجرة بديعة خاصة فى بداية الربيع وظهور الأوراق الجديدة التى قد تشبه المولود الجديد فى حمرتها الرائعة والتى سرعان ما تتحول خلال أيام إلى درجات الأخضر. أزرع شجرة أذن الفيل وهى شجرة أوراقها كبيرة وليست كثيفة ويمكن أن ترى المعمر منها والتى أتوقع أن تكون بعمر يناهز أو يزيد عن المائة عام فى جوار حديقة الأورمان وفى مواجهة مبنى كلية الفنون التطبيقة. ولا أنسى كيف يتخلل ضوء الشمس فيها.
أما إحدى الأشجار المفضلة لدى فهى اللبخ ولدى منها اثنان إحداهما بصحة جيدة والأخرى عانت فى سنين حياتها الأولى من تعب أو مرض لم أعرفه وحاولت مرارا التعامل مع هذا المرض بالدواء ولمدة عدة سنوات لم أنجح ولكنها ولسعادتى البالغة بدأت منذ العام الماضى فى التعافى وأصبحت أتمنى أن تلحق بأختها النامية ولكن يبدو أن أمامنا مشوارا طويلا. ولهذه الشجرة أوراق تنفتح مع بدء النهار وتكاد تغلق مع حلول الليل ولكنها زهور فاتحة جميلة تشبه فى لونها دقن الأشيب لذا سماها البعض دقن الباشا.
***
عندى زيتون أيضا وبالرغم أن الزيتون هو شجر دائم الخضرة ولكن أوراقه لا يتجمع عليها ذلك الكم من الأتربة التى تتجمع على الشجرة الوحيدة التى لا أحبها والتى هى للأسف منتشرة بكثرة فى شوارع مصر بصورة خاصة وهى شجرة «الفيكس نتدا» المسئولة عن تكاثر الذباب الذى يتخذ من الأتربة المتراكمة على الأوراق بيوتا له للتكاثر. يكفى أن ترى شجرة الزيتون بعد عام أو اثنين وقد أثمرت (وأحيانا قبل ذلك)، وقد كانت زراعتها بطول الطريق الصحراوى بين القاهرة والإسكندرية من أنجح القرارات التى طبعا تم الرجوع عنها منذ سنوات وترك الكثير منها ليموت عطشا إن لم يستبدل بما هو أسوأ. وعندى أيضا رمان وما أجمل أوراقه سواء وهى تولد للوجود أو وهى تودعنا ذابلة بلونها الأصفر الرائع ثم تتوالى فى الربيع دورة الحياة وتزهر فى الصيف الزهور الحمراء الجميلة التى تخبرنا بقدوم الثمر. ولطالما تمنيت أن تنتشر الأشجار خاصة المثمرة منها فى شوارعنا وفى الحدائق الصغيرة الموجودة فى بعض المناطق السكنية أو المبانى العامة (تزرع المغرب فى بعض المناطق فى شوارع مدينة مراكش شجر البرتقال)، وتخيل (ي) للحظات الرائحة المنبعثة من زهور البرتقال أو من زهور شجر مثمر آخر.
وفى مناطق عديدة فى الصحراء الشرقية وخاصة فى مخرات السيول نجد أشجار السنط (الأكاسيا)، وبعضها غاية فى الروعة والجمال ولطالما توقفت عن شجرة منها فى طريق القصير فقط للتأمل ولأخذ الصور مع طلابى. وبالقرب من تلك المناطق تعيش قبائل العبابدة والتى من موروثها أن قطع شجرة حية قد يستوجب العقوبة وتعقد محاكمة مرتكب هذه الجريمة وقد يحكم بدفع غرامة أو حتى يُطرد من القبيلة.
بينما أصدرت بعض المدن فى الولايات المتحدة مثل لوس أنجلوس منذ حوالى السنتين قرارا باستبدال النخيل الذى يموت نتيجة مرض فطرى بأشجار محلية وأكثر حساسية لندرة المياه. وفى العام الماضى قررت فلوريدا أيضا استبدال النخيل الشهير بأشجار الزان لأن الشجرة الحية تمتص ما يقرب من مائة ضعف من الكربون فى السنة مقارنة بالنخيل الملكى. كما أنها تغطى مساحة قد تصل إلى خمسة أضعاف مساحة النخل أى تعطى ظلالا أكثر وقد وجدت إحدى الدراسات الأمريكية التى استمرت ثلاث سنوات أن بعض المناطق غير المظللة بالأشجار قد تكون أسخن بمعدل يصل لثمانى درجات حرارة (بعد تحويلها من الفهرنهايت). تنتج الأشجار مياها وهى تلك المسئولة عن تبريد الهواء. وأيضا تقوم الأشجار بتثبيت التربة والمساعدة فى مقاومة الأتربة العالقة فى الجو.
الأشجار هى من الملاجئ الأخيرة والرئيسية التى قد تنقذنا (حرفيا وليس مجازا) فى مصر والعالم؛ لأن للأشجار فى الغابات وفى الصحراء وفى المدن أيضا دور حاسم فى التعامل مع ذلك التحدى المحدق بالبشرية بسبب التغيرات المناخية المتوقعة.. فكيف لا نحب من هو قادر على حمايتنا ولا يُظهر لنا سوى كل جميل ليس شكلا فقط فى درجات الأخضر وتحولاتها المبهرة ولكن أيضا فى روائح وفى أصوات حفيفها وفى النور المتلألئ النافذ منها وفى ملمس سيقانها.. فكيف لا تزداد محبتنا لها والاحتفال بها والدفاع عنها وعنا.