تقول الدراسات إن إحدى أهم محركات السلوك السياسى هى الثقافة السياسية والتى تتشكل بدورها بناء على مقولات يتم الإلحاح عليها بشدة فى منابر ومؤسسات التنشئة السياسية، فتتحول من مجرد كونها «مقولات» إلى «فرضيات» قبل أن تصبح «قناعات» تشكل وعى المواطنين العام وتوجه سلوكهم السياسى.
فى مصر، ترددت مقولات ارتبطت بالشأن العام وتم الإلحاح عليها حتى تحولت إلى مسلمات متحكمة فى السلوك السياسى للعديد من المواطنين. أستعرض فيما يلى اثنتى عشرة فرضية سياسية انتهت صلاحياتها على مدى العقود الماضية، القناعات السياسية التالية آمنت ببعضها على الأقل الجماهير والنخب على السواء من مختلف التيارات السياسية والفكرية وقد حان الوقت لتحديها، هذا التحدى هو لمنطقها السياسى وليس لمنطقها الدينى إن وجد، لذا لزم التنويه!
• «الإسلام هو الحل»: أحد أهم وأبرز فرضيات جماعة الإخوان المسلمون، تلك المقولة التى داعبت خيال العامة وصادرت على الإبداع والبدائل السياسية، قللت من شأن الدين الإسلامى لتنزله من مرتبة الدين إلى مرتبة الأيديولوجيا ومنها إلى مرتبة «برنامج العمل». ربطت مصير الدين، سياسيا، بمصير جماعة دعوية تمارس السياسة. أربكت تفكير المواطن المتدين الباحث عن حل للبطالة أو للسكن أو لأزمة الفساد. حجمت المستقبل السياسى لغير المسلمين وغازلت منطق الخلافة كبديل عن الدولة القومية. تركت أسئلة كثيرة بلا إجابات. ما علاقة الإسلام بتفاصيل سياسية واقتصادية تختلف من دولة لأخرى ومن نظام سياسى لآخر؟ ماذا عن الدول التى طبقت الشريعة (أو هكذا ادعت) ثم فشلت فى إيجاد حلول؟! وصلت الجماعة إلى السلطة وخرجت منها دون أن تقدم أى إجابات.
• «مصر مينفعهاش غير عسكرى»: مصر وباستثناء الفترة من ٢٠١٢ حينما تم انتخاب الرئيس الأسبق محمد مرسى وحتى ٢٠١٤ حين غادر المستشار عدلى منصور السلطة، لم يحكمها إلا رجال المؤسسة العسكرية. منذ ١٩٥٢ وحتى ٢٠١٦، ٦٤ عاما منها ٦٢ عاما حكم فيها مصر عسكريون ولم يتغير شىء. المشكلات تزيد وتتراكم وتبقى المقولة تتردد دون أن يعقلها أحد. هل حان الوقت أن نفهم أن المشكلة ليست فى المدنيين ولكنها فى النظام؟
• «لن ينصلح حالنا قبل أن نعود إلى الله»: تشبه الفرضية الأولى وإن كانت أكثر رحابة. لم تجب تلك الفرضية عن عدد كبير من الأسئلة، منها على سبيل المثال لا الحصر، ما المقصود تحديدا «بالعودة» إلى الله بشكل عملى؟ ثم كيف نضمن أن الجميع سيعود إلى الله؟ وإلى أى إله تعود الدول ذات التعدديات الدينية؟ ولماذا انصلح حال دول كثيرة هى ذات أغلبيات ملحدة وليس لديهم إله كى يعودوا إليه؟ ثم ألم يكن تصور بعض الشعوب عن العودة إلى «الله» سببا فى اندلاع الحروب الأهلية والتصفيات العرقية لأن كلا منهم دافع عن «الله» الذى يعتقد فيه، فتصور أنه يقتل الآخر لوجه الله؟ لماذا تَقاتَل الكاثوليك والبروتستانت فى أيرلندا الشمالية وقبل ذلك بطول وعرض أوروبا؟ لماذا تقاتل الشيعة والسنة فى العراق؟ المارونيون والسنة والشيعة فى لبنان؟ هل أصدمك فأقول لك إن عددا كبيرا من قادة هذه الصراعات كانوا علمانيين أو غير متدينين ولكنهم استغلوا مشاعر الناس الدينية لتعزيز مناطق النفوذ والسيطرة!
• «شعب يعشق (يستحق) جلاديه»: مقولة مبتورة سياسيا وتاريخيا، تحكم على لحظة تاريخية معينة وكأنها دائمة إلى الأبد. كم دولة فى العالم حكمها أباطرة لعقود أو سنوات ثم سقطوا فى النهاية؟ هل استحق شعب تشيلى بينوشيه؟ هل استحق الألمان هتلر؟ أو الطاليان موسولينى؟ أو اليابانيون هيروهيتو؟ أين اليابان وتشيلى وألمانيا وايطاليا الآن؟ أين ذهب جلادوهم؟ أجب عن هذا السؤال قبل أن تردد هذه المقولة المهزومة تاريخيا والتى لا تدفع الشعوب إلا إلى المزيد من التثبيط والخنوع. الجلاد فى عدد كبير من التجارب التاريخية استحق عقاب شعبه وليس العكس.
***
• «الزيت والسكر»: أسطورة أخرى من أساطير السياسة فى مصر! الناس أقبلت على الانتخابات بعد الثورة لأنها حصلت على زيت الإخوان وسكرهم! حقا؟ ألم يكن نفس هؤلاء الذين حصلوا على الزيت والسكر من ثاروا ضد حكم الإخوان لاحقا وتم التغنى بعبقريتهم وحضارتهم؟ ألم يتم توزيع الزيت والسكر بعد انتهاء حكم الإخوان؟ التعبير العلمى لهذه الفرضية البائسة أن المصلحة الاقتصادية قد تحرك أو توجه السلوك السياسى، وهى مقولة صحيحة لكنها فى مصر تحولت إلى مقولة عنصرية ضد فقراء هذا البلد، فإذا كانت مصلحة فقراء مصر هى تأمين احتياجاتهم الرئيسية من الزيت والسكر، فإن مصلحة أغنياء هذا البلد هى الحصول على نظام يوفر لهم ضرائب أقل وتسهيلات استثمارية وعقارية أكثر. زجاجة الزيت التى تغازل صوت الفقير هى نفسها من الناحية العلمية أرض الساحل الشمالى التى تغازل صوت الغنى.
• «عبيد البيادة»: وهى المقولة التى وصفت انحياز بعض الناس للمؤسسة العسكرية بعد الثلاثين من يونيو. نسيت هذه الفرضية أن تقول إن هذا كان نفس انحياز بعض من ردد هذه المقولة من قبل. إذا كانت الديموقراطية هى فى الحق أن ينحاز الناس لمن يختارونه فلماذا لا يحترمون اختيارات الناس «للبيادة» كما اختاروا غير البيادة سابقا؟، ماذا لو قال الناس لهم «نعم نحن سعداء بالبيادة»؟! ادعت هذه العبارة العنصرية تفوقا أخلاقيا لقائليها وميزت ضد من قرر عدم اختيارهم. استسهلت الوصف بدلا من التحليل. حكمت على خيارات البعض دون أ ن تتفهم دوافع هذه الخيارات.
• «الديكتاتور العادل»: لعلها الفرضية الأكثر بؤسا فى السياسية المصرية. لا أعلم عدد المرات التى حكم مصر فيها ديكتاتورا عادلا أو هكذا وصف؟ ماذا كانت النتيجة؟ وما المانع أن يكون عادلا دون أن يكون ديكتاتورا؟ ينتهى الحال فى كل مرة باعتقاد الديكتاتور أن ظلمه عدل إلى أن تقع الواقعة، فهل حان الوقت لإسقاط هذا البؤس؟
• «منح الحرية لجاهل كمنح السكين لمجنون»: الأصح أن نقول إن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، إن الحرية هى فى حد ذاتها حماية من سيطرة المجانين والجهال فى نفس الوقت، أن منع الحرية هو فى حد ذاته خنجر فى ظهر المجتمع؟ ألم يحن الوقت أن نعترف أن كثيرا من انحيازات «مثقفى» هذا البلد أعطت بالفعل السكين لمجانين؟ من الجاهل إذن؟
• «الجائع لا يصوت لأنه يبحث عن رغيف العيش»: فى الواقع تقول الخبرة العملية والدراسات العلمية إن الجوع فى الكثير من الأحيان كان دافعا للتغيير والإصلاح وفرض سيادة الشعب. كان ولايزال دافعا للتعلم والاجتهاد وعدم الاتكال على الغير. كان ولايزال دافعا للنزول إلى الشارع والاحتكاك بالواقع بدلا من التخفى وراء تكتلات خرسانية فى مدن البوابات النائية وخلق سرديات وهمية عن واقع غير موجود إلا فى الفقاعة التى يعيش فيها بعض أصحاب البطن الممتلئ.
• «أزمة مصر أزمة ضمير وأخلاق»: لا أعرف أين أو متى كان هذا الضمير وهذه الأخلاق التى يتباكون عليهما؟ كيف نحصل عليهما؟ ومن يعرفهما؟ أزمة مصر هى أزمة سلطة، أزمة قوانين ودساتير ومؤسسات وسياسات وانحيازات لا أزمة ضمير وأخلاق.
• «العالم بيتآمر علينا»: لا أعرف عن أى عالم نتحدث؟ علاقات مصر الرسمية ممتازة مع ألمانيا! مع إيطاليا! مع روسيا والصين! مع الولايات المتحدة وإسرائيل بل وحماس أخيرا! العالم لم يعد يلتفت لنا! العالم أصلا لا يريد أن نتعرض إلى مؤامرة فننهار لأنه لا يطيق بكل الحسابات المصلحية أن يدفع فاتورة مصر منهارة أو مقسمة. نحن من نتآمر على أنفسنا، فابحثوا عن المؤامرة فى الداخل قبل أن تبحثوا عنها فى الخارج.
• «العلمانية هى الحل»: لا أستطيع أن أحصى عدد العلمانيات التى قتلت شعوبها أو شعوب غيرها، التى منعت الحريات وصادرت على حقوق التنظيم والتعبئة والاعتقاد. ثم عن أى علمانية نتحدث؟ علمانية اليابان أم الصين أم الاتحاد السوفييتى أم ألمانيا أم فرنسا أم الولايات المتحدة؟ وماذا عن تجارب أمريكا اللاتينية وبعض دول آسيا وأفريقيا وأوروبا الشرقية والتى كان للدين ومؤسساته بعض الحضور البارز؟ بعض العلمانيات انتهت إلى ديموقراطيات وحريات، وبعضها انتهى إلى شموليات وانهيارات. إذا، منطقيا، لا توجد علاقة ثابتة بين العلمانية والديموقراطية أو بين العلمانية والسلام أو بين العلمانية والتنمية. الديموقراطية فى معظم التجارب الحديثة لدول شبيهة فى التكوين الجغرافى والعرقى والسياسى لنا كانت هى الحل الأكيد بغض النظر عن درجة أو مستوى العلمانية التى ارتبطت بها أو واكبتها.
***
مقارنة النظم السياسية وتجارب التحول الحديثة تقول إنه لا توجد حلول ثابتة أو وصفات سحرية أو دروس ممنهجة للتقدم والتحضر والتنمية. من يرد الاستسهال فلن يصل أبدا للطريق. قد يتساءل البعض، وماذا بعد؟ أقول أسقطوا هذه القناعات من حساباتكم أولا. بنفس درجة إلحاحكم عليها فى الماضى، لحوا على إسقاطها الآن. فقط بعد ذلك يمكن أن نبحث عن البديل.
مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة!