كتب الراحل الكبير محمد السيد سعيد- رئيس تحرير مجلة أحوال مصرية- فى مقاله «قرن جديد وأشواق متجددة» أننا أمة من الفلاحين لو فهمنا الفلاحة كاستنطاق واستنبات للكون والطبيعة واحتضانها بحب وانتماء للمكان ودافع لتأمل العالم. وكان المصرى يجوب هذا المكان ملاحا ليس فقط من خلال الأساطير ولكن أيضا من خلال سفره إلى الشرق والغرب. ويكتب بعض علماء التاريخ المصرى كيف أن الملاحة، حتى المحدودة بين شاطئ النيل باستخدام القوارب المصنوعة من البوص، كانت حاسمة فى نشأة وتطور الحضارة المصرية. وهذا الفهم للفلاحة والملاحة كعلاقة بالمكان يظهر كيف أن إفساده يحولنا إلى كائنات بدون جذور فى الأرض تدعم ثباتنا وكأننا بتنا معلقين فى الفضاء.
هل يمكن أن تكون هذه العلاقة الجوهرية بين الإنسان وأرضه وعالمه الطبيعى فى مصر ليست مجرد كلام منمق، بل يمكن فهمها كرؤية تحمل فى طياتها ما يمثل أرضية لمستقبل مزدهر للناس فى مصر، وأن هذا الأساس والإطار يمكننا من البدء فى إصلاح هذا الإفساد للمكان والذى نراه هنا وهناك؛ رأيته ورآه معى طلابى وطالباتى فى مناطق عدة ولكنه كان أوضح ما يكون فى ميت رهينة. والتى فى مكانها أُسست ممفيس منذ خمسة آلاف عام كأول عاصمة موحدة لمصر، وشهدت ممفيس عبر آلاف السنين تحرك النهر ببطء من الغرب إلى الشرق عابرا المدينة التى اضطرت لتعديل مكانها مرات عدة أدت لتسميتها من قبل بعض الدارسين بالمدينة المتزحزحة.
كانت للاكتشافات الأثرية بالمنطقة فى القرن التاسع عشر، والتى تواصلت طوال القرن العشرين وحتى الآن، دور كبير فى استعادة الوعى بتلك المدينة التى انهارت منذ نحو ألفى عام وظهر مكانها قرية صغيرة سميت ميت رهينة. وفى عهد عبدالناصر وفى إطار استخدام الآثار كوسيلة للتأكيد على هوية الدولة المصرية تم نقل أحد تمثالى رمسيس لميدان باب الحديد، بينما بقى الثانى فى ميت رهينة، وتم بناء متحف له فى موقع اكتشافه كما تم تحديد عدة مواقع للحفريات تعمل عليها البعثات المختلفة منذ عقود. وتحولت القرية المصرية الهادئة التى يعمل فلاحوها فى زراعة الفول والقمح والنخيل بالاضافة إلى زراعات أخرى إلى قرية أيضا يؤم متحفها العديد من السائحين والسائحات يوميا. وأدى الاهتمام المتزايد بالسياحة كأحد الأنشطة الرئيسية للاقتصاد فى مصر إلى اهتمام أكبر بالمناطق التى يقصدونها وحماية مناطق الحفريات التى يعتقد أنها تحمل الكنوز المستقبلية.
وبالتوازى مع ذلك ونتيجة لتوقف الفيضان فى ستينيات القرن العشرين بسبب بناء السد العالى فى أسوان، لم يعد سكان القرية بحاجة للاحتماء من الفيضان فى داخل القرية القديمة المحمية بداير الناحية. ومع نهاية الستينيات، وكما تظهر بعض الدراسات الموثوقة لنمو الإسكان غير الرسمى فى مصر، كانت البداية الحقيقية لهذا المدى السكنى والذى وصل الآن لأكثر من نصف البناء فى جميع أنحاء مصر، ولكنه يبدو أكثر من ذلك كثيرا فى ميت رهينة. وبينما أحيطت مناطق الحفريات بأسوار مصمتة للحفاظ عليها من إساءة استخدام تلك الأماكن من الأهالى، حيث كان البعض يستخدمها كأماكن لإلقاء المخلفات، وتركت المناطق التى يعيش فيها سكان ميت رهينة، والبالغ عددهم فى آخر تعداد فى عام 2017 أكثر من أربعة وثلاثين ألف نسمة لمصيرها ولاجتهادات ساكنيها ومحاولاتهم للعيش أو التعايش مع ظروف قد تبدو للزائرين من خارجها مثلنا غير منصفة أو لائقة بهذا المصرى الفلاح الملاح.
• • •
ما يزيد من الألم أن التفكير فى مستقبل هذا المكان وما نعرفه عن التهديدات التى قد تأتى مع التغير المناخى يمثل تحديا كبيرا لأى خطط قد تتصور هيئة التخطيط العمرانى من خلال استراتيجية تنمية القرى المصرية أنها قادرة على تحسين حالة المعيشة بها. ويمثل التغير المناخى التهديد الأكبر لمنطقة ميت رهينة، والمتمثل فى ارتفاع متوسط درجة الحرارة بصورة كبيرة خلال العقود القليلة القادمة، وخاصة أن تلك الزيادة هى أكبر من الزيادة المتوقع حدوثها فى أماكن أخرى. ولفهم هذا التهديد أكثر يجب علينا أن نفهم تأثيره على ما يسمونه تكرار الأحداث المناخية المتطرفة؛ مثل ارتفاع درجة الحرارة فوق متوسطاتها بصورة كبيرة ولمدة طويلة بصورة تؤثر على إنتاجية المحاصيل الزراعية، وهذا مثلا ما حدث على الأقل مرة واحدة فى الصيف الماضى وأثر على إنتاجية النخيل ومحاصيل أخرى فى المنطقة. فى العقود القادمة فإنه من المتوقع تزايد تكرار تلك الحوادث بالصورة التى قد تسبب خسارة ليست فقط اقتصادية ولكن ببساطة فى توافر الطعام.
• • •
هل يمكن أن نواجه تلك التأثيرات المتوقعة ونسهم فى الحفاظ على حياة الناس وربما نساعدهم على العيش بصورة أفضل؟. ربما يمكن ذلك إذا راجعنا فهمنا للتغير المناخى بصورة أفضل، وبدلا من التركيز على الرواية الشائعة المبنية على غاز ثانى اكسيد الكربون وأصدقائه من الغازات المسببة للاحتباس الحرارى، علينا فقط أن نلتفت لرواية أخرى غير شائعة ولكنها ربما بنفس الأهمية وفى مصر ربما تكون أهم. تتبنى تلك الرواية الثانية فهما أدق لدورة المياه فى الأرض وكيف يلعب النبات دورا رئيسيا فى تنظيم تلك الدورة والتى تقوم بالتحكم فى حرارة الأرض ومستويات الكربون فى الغلاف الجوى. وطبقا لعالم الميكروبيولوجى المتخصص فى التربة الزراعية والتر جين فإن تلك العملية مسئولة عن التحكم فى ما يقارب 95% من تدفق الطاقة على كوكب الأرض. ويؤكد جين وآخرون أن حل التغير المناخى ليس مبنيا فقط أو أساسا على التحكم فى انبعاث الغازات وعلى رأسها الكربون، ولكنه يرى أن الحل الرئيسى للتعامل مع التغير المناخى يبدأ من استعادة الغطاء النباتى، وخاصة البرى، فى الأماكن المختلفة لتمكين الطبيعة من استعادة عافيتها وقدرتها على تنظيم الحرارة ودعم الحياة بمختلف صورها، ومنها إنتاج كميات كافية من الطعام. والخاصية التبريدية لتلك النباتات وقدرتها على المساعدة من خلال جذورها فى الحفاظ على مستويات معقولة من المياه فى التربة السطحية سيكون لها دور حاسم فى امتصاص الكربون من الجو وتحويله إلى كربون عضوى يحسن التربة ويدعم مقاومة التغير المناخى.
فى الحقيقة تقدر بعض الدراسات، ومنها دراسة اللجنة الحكومية للتغير المناخى وخاصة فى تقريرها الأخير الصادر من أسابيع قليلة، أن الفرصة المتاحة أمامنا كبشر لتجنب الآثار الكارثية للتغير المناخى آخذة فى التضاؤل وربما لم يبق لنا سوى بضع سنوات للعمل الجاد والحاسم. وبالرغم مما يحمله هذا التحذير من إنذار خطير إلا أننا، وخاصة مع تبنى فهم التغير المناخى الذى تلعب فيه منظومة المياه والنباتات دورا حاسما، ربما نستطيع أن نبدأ منها لنستعيد وبسرعة هذا الفهم الذى طرحه الدكتور محمد السيد السعيد والذى يمكننا من تبنى تلك النظريات الحديثة التى تربط بين المجتمع والنظم البيئية بصورة لا يمكن الفصل بينهما، وذلك للوصول لتوازن يحقق الحفاظ على الطبيعة واستمرار تجددها وفى نفس الوقت رفاهية الإنسان وازدهار المجتمع.
أستاذ العمارة بجامعة القاهرة