كانت إذاعة القرآن الكريم هى سلواى الأولى والأخيرة فى فترة سجنى.. كنت أحب سماع القرآن أكثر من قراءته.. لأننى أمل القراءة سريعا.. ولا أمل من السماع.. وقد واظبت على قرآن السهرة قرابة عشرين عاما كاملة.. 11 قارئا رائعا كنت أتابعهم بشغف باستمرار.. كان الراديو ممنوعا فى أوقات كثيرة فى السجون.. وكنا نتفنن فى إخفائه عن أعين الضباط والمخبرين.. فنخبئه فى باب الزنزانة أو عند دورة المياه.. وكنا نصنع مخبأ فى كل زنزانة فى الأرض.. وهناك متخصصون فى صنع المخابئ.. وكان الشيخ على الشريف هو أفضل من يصنع المخابئ.
كان الراديو والقلم والكراسة ومؤلفات الإنسان والمقص والقصافة من أهم ما نضعه فى المخبأ.. وعندما ينصرف الشاويشية نفتح المخبأ بشوق لنستمع إلى القرآن ينساب رائعا تارة من صاحب الحنجرة الذهبية الذى عشقته الشيخ عبد الباسط.. والذى اعتمد فى الإذاعة صغيرا واشتهر فى مصر والعالم كله.. وأسلم على يديه عشرات الآلاف.. وكنت دائما أردد لتلاميذى: الشيخ عبدالباسط مثل الإمام الشافعى.. كلاهما ذهبا للعالم كله لينشر علمه ولم ينتظرها حتى تأتيه.. الشافعى نشر مذهبه.. وعبدالباسط نشر الإسلام بصوته الرائع.
فكل القرى التى قرأ فيها الشيخ عبدالباسط فى الهند واندونيسيا أو الفلبين أو بنجلاديش أو جنوب أفريقيا أو أى دولة أخرى أسلمت بكاملها.. حتى أن الاندونيسيين إلى الآن يقلدونه فى القراءة.
وقد قال لى أحد المترجمين الاندونيسيين: لولا الأزهر وعبدالناصر وعبدالباسط ما كان هناك ذكر لمصر فى اندونيسيا.
لقد حظى الشيخ عبدالباسط على أكثر الألقاب العظيمة من الناس قبل الحكام ومنها «قارئ مكة.. أو صوت مكة».. وذلك بعد أن بهر الناس بروعة صوته وأدائه وهو يتلو القرآن فى الخمسينيات فى الحرم المكى.
وقد وجدت من كثرة تأملى لأهل القرآن أن عملاق القرآن والأب الروحى له فى مصر الشيخ محمد رفعت أورث طريقته فى القراءة للشيخ أبو العينين شعيشع.. وهو الذى تعلم منه الشيخ عبدالباسط روعة القراءة والتجويد وقوة الصوت.. وقد حكى الشيخ شعيشع أنه كان يقلد الشيخ رفعت ويذهب كل جمعة لسماعه فى مسجد شبايك بالقاهرة.. فقال أحد الجلساء للشيخ رفعت: يا مولانا هناك ولد صغير أسمه أبو العينين شعيشع يقلدك ويريد أن يأخذ مكانك.. فقال له الشيخ رفعت بأدبه المعروف: هذا الشاب أحبه كثيرا وسيكون له مستقبل عظيم.. فلم تكن الضغينة والبغضاء قد دخلت بين الناس فى مصر.
وهنا انتفض الشاب شعيشع فرحا وقبل يد الشيخ رفعت قائلا له: أنا خادمك وابنك شعيشع.. فقبله الشيخ رفعت واحتضنه.
وأول من عرف مجموعتنا فى السجن على صوت الشيخ شعيشع كان المهندس أبو العلا ماضى فك الله أسره.. ومن يومها تعلقت بصوته.
نعود إلى صاحب الحنجرة الذهبية عبدالباسط الذى سافر إلى باكستان ففوجئ بالرئيس ضياء الحق يستقبله على سلم الطائرة ضاربا بكل الأعراف الدبلوماسية عرض الحائط ومسجلا فى الوقت نفسه تقديرا خاصا له ولأهل القرآن عامة.
وحينما زار الشيخ عبد الباسط الهند لقراءة القرآن فى احتفال شعبى كبير إذا به يفاجأ بأنديرا غاندى رئيسة الوزراء بين الحضور رغم أنها هندوسية.. ويفاجأ بالحضور جميعا يخلعون الأحذية ويقفون من مقاعدهم وقد حنوا رءوسهم إلى أسفل وأعينهم تذرف بالدموع.. حتى إن الشيخ عبدالباسط لم يتمالك نفسه فبكى فى نهاية تلاوته.
وقد تأملت هذه الواقعة بالذات وقلت أهل آسيا أرق من أهل أفريقيا.. وأهل الهند مع جنوب شرق آسيا يأسرك أدبهم وخلقهم.
فقد حضر إلى منزلى مرة صحفى يابانى كبير.. وقد تعودت أن أكرر ترحابى بضيفى.. وكلما رحبت به وقف محييا شبه راكع.. وكلما قدمت له شرابا أو حلوا فعل ذلك فقلت فى نفسى: والله إنها لأخلاق الإسلام الحقيقية التى نفتقدها فى حياتنا.
وقد تفكرت فى موقف إنديرا غاندى وغيرها من غير المسلمين الذين أحبوا سماع القرآن أو قراءة تفسيره أو قراءته وخلصت وأنا فى هذا العمر أن القرآن ليس للمسلمين وحدهم وليس حكرا لنا ولا خاصا بأحد.. إنه للجميع.. ويفيد الجميع من يؤمن به ومن لا يؤمن به.
وقد بهر الشيخ عبدالباسط الاندونيسيين حينما قرأ فى مسجد الاستقلال وهو أكبر مسجد فى شرق آسيا ويسع مليون مصلى فامتد الحضور خارج المسجد إلى دائرة قطرها كيلومتر وهم وقوف فى حالة خشوع.. سلامٌُ على الشيخ عبد الباسط فى العالمين.. وإلى يوم الدين.