فى آخر أيام إجازتى الصيفية فى مصر قابلت صديقا عزيزا لم أكن قد قابلته منذ فترة، بعد السلام والتحية، سألنى السؤال المعتاد، كيف ترى مصر؟!
لقد أجبت عن هذا السؤال مرارا خلال إجازتى الطويلة نسبيا هذه المرة، وكانت إجابتى عادة محايدة روتينية، لا تخرج غالبا عن «أحسن من غيرها»، أو«أهى بلدنا بقى هنعمل إيه»، أو إذا أردت عدم كسر مجاديف صاحب السؤال «ربنا يسترها ويصلح الحال»! لا أعرف لماذا قررت هذه المرة أن أحصل على برهة من الوقت قبل أن أجيب، ربما كان اليوم الأخير وما يصاحبه ذلك من فيضان فى المشاعر، أو ربما لأنه صديق عزيز ومقرب تعرض للكثير من الظلم فى البلد، أو ربما بسبب ذكائه ومهاراته، ورغم ذلك يصر على المحاولة ولا يفقد الأمل، أو ربما لحظة حكمة تملكتنى، المهم قررت التفكير مليا قبل أن أرد، فوجدت نفسى أجيب عليه وبثقة شديدة «أنا مبقتش عارف مصر»!
رغم أن الصديق العزيز هز رأسه بالموافقة على ما أقول، لكنه عاجلنى بسؤال آخر «إزاى يعنى مبقتش تعرفها؟»، ساعتها بدأت فى الإجابة مسترسلا بحزن حاكيا له كيف أن زيارتى هذه المرة كانت مختلفة!
حكيت له عن أولادى الذين يكبرون سريعا ولا أعيش معهم بسبب بعض الظروف الخاصة، كيف يتساءلون عن أشياء كثيرة لا أعرف كيف أجيب عنها، كيف أرى ذكاءهم وتطلعهم للمستقبل وطموحهم فى معيشة أفضل، فأخشى ألا أتمكن من توفيرها لهم، أخاف عليهم وعلى مستقبلهم فى بلد صعبة المراس، قاسية وبشدة على أهلها وشبابها، أتظاهر بالحكمة والقوة أمامهم، أعطيهم من الأمل ما يستحقون، لكنى أتساءل فى سرى وأنا أطيل النظر إلى ملامحهم، «يا ترى ماذا ينتظركم فى المستقبل؟».
***
أخذت أحكى عن الأقارب والأهل والمعارف الذين لم أعد أراهم سوى كل أربع أو خمس سنوات بسبب ظروف السفر وغيرها، كيف أصبحت صلة الرحم صعبة، كيف انشغل الناس بحياتهم محاولين الحفاظ على الحد الأدنى اللازم للحياة، كيف تزايدت المشكلات وتعقدت العلاقات وتغيرت النفوس!
حكيت له عن الكثير من الأصدقاء الذين تغيروا، لا ألومهم، فقد يروا هم أيضا أنى تغيرت بالمثل وهم محقون، لكنى فقط أتأمل كيف تقسو الحياة عليهم وهم حتى الأمس القريب كانوا من أبناء الطبقات المستورة ! كيف اضطر هذا للاستدانة لأول مرة فى حياته، كيف خسر آخر منصبه بسبب الضغوط الأمنية التى مورست على مؤسسته لإبعاده، كيف طلق ثالث زوجته بعد سنوات زواج تعدت الثمانية لأسباب لم يسمها، لكنى أستطيع رؤية شعوره بالعزلة والوحدة، كيف يتحاشى رابع مقابلات الأصدقاء بسبب مصاريف الخروج، كيف صدقت خامسة أطروحات المؤامرة وتملكتها مشاعر الفزع من انهيار البلد، فغيرت معاملتها مع كل الأصدقاء لأنها أصبحت ترى معظمهم عملاء أو متآمرين، بينما سادسة لم تعد تكترث كثيرا بالحياة وتكتفى بالمقاومة النفسية والمادية من أجل زوجها المحبوس احتياطيا منذ سنوات ولا ينعم بالمحاكمة أمام قاضيه الطبيعى، كيف تقوقع سابع حول نفسه مشغولا بالبحث عن معنى العدل وهو الإنسان المتدين المتعلم الذى أفقده ما يحدث رشده ورغبته فى التواصل! وهكذا عشرات القصص المشابهة المؤلمة التى حولت العلاقات الإنسانية وجمدت معنى الحياة فى نظر كثيرين.
حكيت له عن الشباب وكيف يعافر بحثا عن فرصة، لكنه يرى الأمل ضعيفا، يجد فجوة كبيرة بين مجموعة القيم الأخلاقية التى تربى عليها وبين الواقع المرير الذى يعيشه، كيف لا يستطيع استخدام مهاراته، كيف يصدمه من هم أكبر سنا والذين لطالما كان ينظر إليهم باعتبارهم قدوة أو مثل أعلى! كيف أصبح قطاع كبير منهم باحثا عن الخروج من البلد، ليس كرها لها ولا تبترا عليها وعلى ظروفها، لكن لأنه لا يستطيع رؤية المستقبل!
***
هذه هى المشكلة الأكبر، قد تعيش ظروف صعبة، لكن لو لديك قدر ولو طفيف من الأمل، ستحاول أن تقاوم، ستلملم أشلاء نفسك وستنتظر الفرصة، لكن إذا ذهب الأمل فكيف يمكنك استكشاف ملامح الطريق؟ هذا هو السؤال الذى يوجهه شباب العشرينيات لنا نحن الجيل الأقرب لهم فى العمر وفى الظروف، ولكننا نتحسس الطريق للإجابة ولا نجد بكل أسف!
حكيت له عن السياسيين وكيف استنزفت طاقتهم، بعضهم يلوم الشعب «السلبى»، والآخر يلوم النخب المتكسلة، وكلاهما يلوم السلطة! قال لى أحدهم حينما حاولت شحن همته على العمل السلمى والصبر على الناس، «ولما أعمل اجتماع رسمى والناس تمسك شباب الحزب عندى، إزاى أقنع رجل الشارع العادى غير المسيس إنه يشارك معايا؟»...فكرت قليلا، قبل أن أجيبه ببساطة وإذعان «عندك حق!».
ثم حكيت له عن الناس العادية، عن معاناتهم ومحاولتهم المقاومة لأكل العيش، عن شعورهم بالتفاوت الطبقى، عن شعورهم بالخوف الشديد على مستقبلهم ومستقبل أولادهم، عن قبولهم بالذل والهوان من الأعلى منهم فى المرتبة الاجتماعية من أجل أكل العيش، ورغم ذلك لا يمكن أن تخطئ المصرى لما يحمله دائما من مشاعر الرضا والصبر وانتظار الفرج والعمل بكد وبلا يأس والمقاومة من أجل العيش لطالما أنه يتنفس.
حكيت له عن رجال الدين وعلمائه، وكيف تحول بعضهم إلى طابور من الموظفين، إلى طابور من المطيعين والمبررين، إلى طابور من الممانعين لأى فكرة حديثة بحجة المؤامرة على الدين، كيف فقدوا ثقة الشباب، كيف يواصلون مهمتهم المقدسة فى غسيل عقول البشر، كيف يظهرون جهلهم العميق كلما تكلموا فى السياسة والاقتصاد ورغم ذلك لا يستحون بل إنهم يتبجحون بجهلهم المقدس! كيف أصبحت الناس تبحث عن عدل الله ولا تجده لدى هؤلاء ولكنهم يخشون الحديث لتحاشى دفع أثمان باهظة لا يقدرون عليها!
***
سألنى الصديق مستنكرا أو ساخرا لا أعرف، «يعنى مفيش أى إيجابيات؟»
قلت له نافيا، يتوقف ذلك على معنى الإيجابيات! ويتوقف ذلك أيضا على موقعك الاجتماعى وتراتبية سلطتك فى المجتمع حتى تشعر بهذه الإيجابيات أو لا تشعر بها! هناك نهضة عمرانية، هناك طرق، هناك جسور، وهناك أنفاق، وهناك مدن جديدة، وهناك خدمات سياحية متطورة، وهناك ماركات عالمية، وهناك حفلات لنجوم كبار، وهناك مطاعم وفنادق على أعلى مستوى، لكن كم عدد المستفيدين من كل هذا؟ ما هى نسبتهم من إجمالى الشعب؟ وما الذى ستستفيده الأجيال القادمة لو تم تطوير الحجر على حساب البشر؟ لو تم حساب الأرقام الكلية دون الالتفات إلى التوزيع؟ لو تم تنمية مصر رقميا دون الالتفات لتنميتها البشرية ولقوتها الناعمة والتى هى بالأساس تنمية تعليمها وصحتها، تنمية شعبها وشبابها، تنمية مجتمعها المدنى والأهلى؟
سألنى مبتسما: «يعنى مش أحسن من سوريا والعراق ؟»، قلت له نعم لم ننهار، وما زال لدينا دولة، وما زال لدينا أمن، وما زال لدينا حياة طبيعية، لكن هناك محدودية فى كل شىء، هناك تصميم على نسخة «مصر المحدودة»، مصر التى لا تنهار ولكن لا تتقدم! مصر التى لا تدخل فى صراعات داخلية وحروب أهلية، لكنها فى الوقت ذاته تبقى أسيرة الاستقطابات العنف والعنف المضاد! مصر التى يتردد اسمها فى الإقليم ولكنها لا تقدر على استعادة موقعها، مصر التى تنظم المحافل الدولية، ثقافيا وفنيا ورياضيا، ولكنها تعجز عن تنظيم حياة أبنائها بما يليق بهم، مصر الشكل دون الاهتمام بالمضمون!
فقال لى وقد بدا عليه الإرهاق والحزن، «يعنى مفيش أمل»؟
فقلت له طالما نحيا، فسنظل متمسكين بالأمل! هناك أناس يحاولون، هناك شباب لا يستسلم، وهناك شعب ما زال يتمسك بفضيلة الصبر، وهناك أصحاب الضمائر ممن يسعون دوما للطبطبة على الناس وحثهم على عدم اليأس، وهناك من لا يزال يعمل فى المجتمعات الأهلية المدنية بكل صبر فى محاولة لسد عوز الناس، وهناك من النخب من يحاول إيجاد مخارج لأزمات السياسة رغم كل الأثمان التى قد يتحملها وهؤلاء جميعا هم الأمل!
نعم نحب مصر التى أصبحنا لا نعرفها، ونعم سنظل متمسكين بالأمل، لكننا سنبقى نقولها لمن يسمع، نحن فى الطريق الخطأ، ونحتاج إلى هدنة للتفكير، للتخلى عن العند والإصرار على السير فى الاتجاه العكسى للتنمية، نحتاج من مصر أن تعيد التعرف على شعبها مرة أخرى، حتى يتمكن الأخير من التعرف عليها، فكفانا غربة واغتراب!