نعود إلى البدايات: إذا كان الأصل فى التنظيم الديمقراطى للدولة وللمجتمع هو تداول السلطة عبر صندوق الانتخابات النزيه والدورى وفى إطار سيادة القانون وإذا كان الأصل أيضا هو احترافية وحيادية المؤسسات العسكرية والأمنية وامتناعها عن التدخل فى السياسة، فإن الأصلين معا يقصران الترشح للمناصب التشريعية والتنفيذية والتنافس الانتخابى عليها على المدنيين المستقلين أو الأعضاء فى الأحزاب السياسية ويستبعدان العسكريين والعاملين بالمؤسسات الأمنية.
ولقاعدة استبعاد العسكريين والأمنيين نظائر فى الديمقراطيات تذهب إما باتجاه منع أعضاء السلطة القضائية من الترشح والتنافس الانتخابى أو باتجاه استثناء الموظفين العموميين وهم عماد أجهزة الدولة التنفيذية والإدارية. والهدف دوما هو عدم الزج بمؤسسات الدولة وأجهزتها إلى أتون السياسة وصراعاتها وضمان نزاهة التنافس الانتخابى. والهدف دوما هو تمكين المدنيين المنتخبين، وبمقتضى الصلاحيات المخولة لمناصبهم التشريعية والتنفيذية، من الرقابة باسم الإرادة الشعبية (التى تعبر عن نفسها فى صندوق الانتخابات) على مؤسسات الدولة وأجهزتها وتحديد آليات وأدوات علمها. ولا تعنى قواعد استبعاد العسكريين والأمنيين والقضاة والموظفين العموميين حرمانهم من ممارسة حقهم السياسى المتمثل فى التصويت فى الاستفتاءات والانتخابات (سجلت من قبل تأييدى بالكامل لتصويت العسكريين والأمنيين العاملين فى الاستفتاءات والانتخابات المصرية)، كما لا يسرى المنع من الترشح والتنافس الانتخابى على العسكريين والأمنيين والقضاة والموظفين العموميين خارج الخدمة أو السابقين. لذلك، تتكرر ظاهرة ترشح بعض العسكريين خارج الخدمة والموظفين العموميين السابقين والقضاة المتقاعدين فى الانتخابات التشريعية والتنفيذية فى بعض الديمقراطيات المستقرة ولا تثير الكثير من الهواجس بشأن مدنية السياسة وحيادية الدولة.
إلا أن الأمر وبالنظر إلى ترشح العسكريين والأمنيين يختلف جذريا فى الديمقراطيات الناشئة وفى الدول التى تسعى لإنجاز التحول الديمقراطى، وبالتأكيد فى تلك التى تتعثر مسارات تحولها كمصر. فالديمقراطيات الناشئة والدول المتحولة للديمقراطية، من جهة، تحتاج إلى غرس ثقة المواطنات والمواطنين فى قدرة المدنيين المنتخبين وفى قدرة الأحزاب السياسية على إدارة الشأن العام وتحقيق المصالح الوطنية ومن ثم يفضل استناد الترشح والتنافس الانتخابى إلى المدنيين وتحجيم ترشح العسكريين والأمنيين. من جهة أخرى، يتطلب تحقيق الاستقرار التدريجى للديمقراطية الناشئة أو إنجاز التحول الديمقراطى التزام مؤسسات الدولة وأجهزتها بالحيادية وسيادة القانون والامتناع عن التدخل فى السياسة وهو ما يصعب ضمانه حال وجود مرشحين فى الانتخابات أو برلمانيين وتنفيذيين منتخبين لهم انتماء سابق للمؤسسات وللأجهزة هذه.
أما فى الدول والمجتمعات التى تتعثر مسارات تحولها الديمقراطى أو يتواتر بها تدخل الجيوش والمؤسسات الأمنية فى السياسة بينما تعانى السلطات التشريعية والتنفيذية من الهامشية ومحدودية النفوذ أو تتسم بها أدوار المدنيين المستقلين والأحزاب السياسية بالضعف أو تتداخل بها مصالح المؤسسات والأجهزة مع شبكات سياسية واقتصادية ومالية، ومصر بها كل هذا، فإن ترشح العسكريين والأمنيين خارج الخدمة والمتقاعدين للمناصب التشريعية والتنفيذية يلحق ضررا بالغا بمدنية السياسة وقد يقضى بالكامل على فرص التحول الديمقراطى.
ترشحهم يعمق من غياب التوازن فى العلاقات المدنية العسكرية ويحد من احتمالية دفعها دستوريا وقانونيا وسياسيا باتجاه ديمقراطى. ترشحهم يعيد إنتاج عسكرة المخيلة الشعبية التى تجد صعوبة فى الثقة فى المدنيين المنتخبين وتبحث دائما، وعلى خلفية التدخلات المتواترة للجيوش فى السياسة، عن بطل أو مخلص قادم من المؤسسة العسكرية أو بدرجة أقل من المؤسسات الأمنية. ترشحهم يهمش المدنيين المستقلين والأحزاب السياسية ويجعل منهم، وفى أجواء تتسم بمحدودية الثقة الشعبية بهم، ديكور ديمقراطى لممارسة سياسية ذات مضامين غير ديمقراطية. ترشحهم يورط مؤسساتهم العسكرية والأمنية فى السياسة، فيباعد بينها وبين الحيادية ويهدد من ثم نزاهة التنافس الانتخابى المرتبطة بالحيادية هذه، بل ويباعد أيضا بينها وبين المهام الأصلية المتمثلة فى حماية أمن الوطن والمواطن وتماسك الدولة.
يحتاج كل من استقرار الديمقراطيات الناشئة وإنجاز التحول الديمقراطى وتجاوز عثراته لمؤسسات عسكرية وأمنية احترافية وحيادية وبعيدة عن السياسة، والاحتياج شديد أيضا إلى تداول السلطة بين المدنيين المنتخبين والأحزاب السياسية لكى تغرس الثقة الشعبية فى ممارسى السياسة هؤلاء وتضمن ديمقراطية العلاقات المدنية العسكرية وتحمى المؤسسات العسكرية والأمنية من أتون السياسة وصراعاتها لتتفرغ لمهامها الأصلية اللازمة للحفاظ على أمن الوطن والمواطن وتماسك الدولة الوطنية.
غدا هامش جديد للديمقراطية فى مصر.