إن القائد السياسى صاحب الرؤية الصائبة لا يقيد نفسه باختياره مسارا محددا ويفترض ثبات العوامل الأخرى، ولا يصر على التمسك بعناد بالمسار الذى يرى أنه الصواب، وخاصة فى القضايا التى لا يكون فى مقدوره مع كل مؤيديه تحقيق كل الافتراضات التى يضعها ويخطط لاتباعها وينفذها. ولا ينبغى أن يتجاهل أن الأطراف الأخرى، والتى لا يملك سيطرة عليها، أو حتى مجرد تأثير قوى. لديها مسار آخر تتمسك به وتضع الافتراضات والبرامج لتنفيذه. وأن ما يحدث فى مثل هذه الحالات أن يجد القائد السياسى نفسه يخرج من مأزق إلى مأزق آخر وينشغل طول الوقت بالبحث عن مخرج، ولكن التداعيات تظل تلاحقه واحدة بعد الأخرى.
وهذا هو ما حدث مع رئيس وزراء بريطانيا الجديد بوريس جونسون، فقد وضع لنفسه وحكومته تاريخا محددا للخروج من الاتحاد الأوروبى فى 31 أكتوبر 2019 سواء باتفاق أو بدون اتفاق، ولم يقبل أى مسار آخر غير ذلك. فماذا حدث؟
***
كان موقف الاتحاد الأوروبى واضحا ومحددا، وهو أنه لا مجال للتفاوض من جديد ولا تغيير فى الاتفاق الذى تم التوصل إليه مع رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تريزا ماى، والذى رفضه البرلمان البريطانى ثلاث مرات وترتب عليه استقالة حكومة تريزا ماى وتشكيل حكومة بوريس جونسون، وأنه إذا خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبى دون اتفاق فإن عليها أن تتحمل جميع تبعات ذلك. وقد أكدت الدول الكبيرة فى الاتحاد هذا الموقف على لسان المسئولين الألمان والفرنسيين وغيرهم، كما أعلن رئيس وزراء إيرلندا فى مؤتمر صحفى مع بوريس جونسون فى دبلن، أنه يرى أهمية التوصل إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبى وأنه يختلف مع مسار جونسون الذى سيلحق أضرارا ببريطانيا وإيرلندا.
وأن موقف الاتحاد الأوروبى المتشدد يرجع إلى الحرص على عدم جعل خروج أى دولة عضو من الاتحاد أمرا هينا وبلا أعباء كبيرة خشية أن يؤدى ذلك إلى تشجيع دول أخرى لتحذو حذو بريطانيا. وقد حدد الاتحاد عقد قمة أخيرة مع بريطانيا يومى 17 و 18 أكتوبر 2019 للاستماع إلى رئيس الحكومة البريطانية الجديد جونسون، مع إيضاح مسبق أنه لا تغيير فى الاتفاق الذى تم التوصل إليه مع الحكومة البريطانية السابقة.
وقد لجأ جونسون إلى تعليق أعمال البرلمان البريطانى لمدة خمسة أسابيع فى الفترة من 10 سبتمبر إلى 14 أكتوبر 2019، وهو ما يقلل فرص البرلمان فى تعطيل الخروج من الاتحاد دون اتفاق. وقد وقعت الملكة البريطانية القرار وأصبح ساريا لأنها وفقا للقواعد المعمول بها تملك ولا تحكم ومن ثم ليس من حقها الاعتراض على ما يطلبه رئيس الوزراء، وكما جرى العرف كان البرلمان يتعطل لمدة لا تتجاوز أسبوعين لزيارة دوائرهم الانتخابية، كما أن الموقف هذا العام كان يتطلب استمرار عمل البرلمان لمتابعة مناقشة موضوع حيوى للغاية لذا اتهمت أحزاب المعارضة وأعضاء من حزب المحافظين جونسون بأنه خدع الملكة ولم يوضح لها أبعاد الموقف وأسباب رفض المعارضة قرار تعليق أعمال البرلمان.
وجاء رد البرلمان على تعليق أعماله بإصدار قرار بعدم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى بدون اتفاق وأنه إذا لم يمكن التوصل إلى اتفاق حتى 19 أكتوبر 2019، فعلى الحكومة أن تطلب من الاتحاد تمديد الفترة المحددة للخروج إلى آخر يناير 2020 بدلا من 31 أكتوبر 2019. وقد اعتمدت الملكة القرار وأصبح ملزما للحكومة.
ولكن بوريس جونسون أصر على عناده وموقفة وقال إنه يفضل أن يموت ويدفن فى حفرة على أن يذهب إلى بروكسل ويطلب تمديدا آخر، واتهم المعارضين بأنهم يساهمون بموقفهم هذا فى وضع العراقيل أمام التوصل إلى اتفاق جديد وجعل بروكسل تتمسك بموقفها وقد صدرت عدة تصريحات عن بروكسل وبعض الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى بأنهم قد لا يوافقون على طلب تمديد جديد حيث سبق أن تم التمديد أكثر من مرة، وأن المشكلة لدى البريطانيين الذين يتعين عليهم أن يتفقوا فيما بينهم على ما يريدون.
***
لجأ بوريس جونسون إلى مناورة أخرى بتقديم طلب إلى البرلمان البريطانى باقتراح إجراء انتخابات مبكرة فى 15 أكتوبر 2019 أى قبل موعد القمة مع الاتحاد الأوروبى بيومين وقبل التاريخ المحدد لخروج بريطانيا بأسبوعين، وكانت نتيجة تصويت البرلمان على هذا الاقتراح معروفة سلفا وهى الرفض بأغلبية واضحة كما أن مثل هذا الاقتراح يحتاج إلى أغلبية الثلثين لإقراره. وقد سبق أن حذر تونى بلير، رئيس الوزراء الأسبق، ومن قيادات حزب العمال من قبول إجراء انتخابات مبكرة قبل موعد الخروج من الاتحاد، وقال إنها تشبه حفرة صيد الأفيال، لأن جونسون أراد أن يراهن على حالة الانقسام فى حزب العمال وأن أعدادا كبيرة من نقابات العمال تؤيد الخروج من الاتحاد الأوروبى لما أثير من مخاوف بشأن تدفق المهاجرين والعمال الأجانب بأجور وشروط أقل وحلولهم فى عدة قطاعات محل العمال البريطانيين ومرة أخرى يهزم جونسون لأخطاء فى حساباته ولتحدى البرلمان لدرجة خروج 21 عضوا من حزب المحافظين وتصويتهم مع المعارضين، وهو ما أغضب جونسون وأقالهم من عضوية حزب المحافظين عقابا لهم. وقد استقال رئيس البرلمان على أن يتم ذلك بحلول نهاية أكتوبر.
وقد أدى تمسك جونسون بالمسار الذى حدده لنفسه ولحكومته إلى عدة تداعيات ليس فقط حالة الانقسام داخل حزب المحافظين على النحو السابق تناوله وإنما أيضا استقالة رئيسة وزراء اسكتلندا، وهى من القيادات المهمة فى الحزب، اعتراضا على سياسة جونسون، خاصة وأن أغلبية الناخبين فى اسكتلندا قد صوتوا فى استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبى عام 2016 بعدم الموافقة على الخروج، شأنهم فى ذلك شأن إيرلندا الشمالية، وهو الأمر الذى يهدد بحالة من الانقسام وتهديد وحدة المملكة المتحدة.
جونسون لم يضع فى حسابه أن مؤيدى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى ليسوا جميعا على موقف واحد بالنسبة لطريق الخروج، بل هم منقسمون بين من يرى ضرورة وأهمية أن يكون الخروج باتفاق مع الاتحاد الأوروبى للتخفيف من الأعباء التى ستتحملها بريطانيا من ناحية والمحافظة على علاقاتها التجارية والاقتصادية المالية مع دول الاتحاد فى إطار خاص ومتميز يخدم مصالح الطرفين، بينما يؤيد آخرون جونسون بالخروج فى الموعد المحدد سواء كان باتفاق أو بدون اتفاق. كما أن مؤيدى الخروج من الفريقين منقسمون بالنسبة لدعوة جونسون إلى إجراء انتخابات مبكرة وهو ما أدى إلى هزيمة سهلة للاقتراح فى البرلمان.
***
ولم يتوقف أمر الاستقالات عند أعضاء حزب المحافظين فقط بل امتد إلى مجلس الوزراء حيث استقال وزير الدولة وشقيق جونسون، وهو جو جونسون، وصرح عقب استقالته أنه لم يرد نقل الخلافات السياسية مع رئيس الوزراء إلى نطاق العائلة، لذا فضل الاستقالة كما أعلنت آمبر رود، وزيرة العمل والمتقاعدين، استقالتها من الحكومة الغارقة فى أزمات سياسية، واحتجاجا على قرار جونسون بفصل 21 عضوا متمردا من حزب المحافظين لأنهم رفضوا تعليق أعمال البرلمان فى هذا التوقيت الحرج، وتجدر الإشارة إلى أن الوزيرة كانت من معارضى الخروج من الاتحاد الأوروبى.
كانت المحكمة الابتدائية فى اسكتلندا قد حكمت بعدم اختصاصها بنظر القضية المرفوعة من مجموعة من النواب لرفض تعليق أعمال البرلمان، موضحة أن هذا من شئون البرلمان وهو أمر سياسى ولا توجد قواعد قانونية بشأنه، إلا أن المحكمة الاسكتلندية حكمت بأن قرار رئيس الوزراء جونسون، بتعليق أعمال البرلمان غير شرعى وملغى وباطل لأن هدفه منع البرلمان من مراقبة أعمال الحكومة أى منعه من وظيفته الأساسية. وقد استأنفت الحكومة على هذا الحكم أمام المحكمة العليا فى لندن، وقد أوضح أحد المحامين البريطانيين أن المحكمة العليا فى لندن قد لا توافق على حكم محكمة اسكتلندا لأن القانون فى الأخيرة مختلف عنه فى بريطانيا.
ويبقى أمام جونسون أن يذهب إلى القمة مع الاتحاد الأوروبى فى 17 أكتوبر القادم بمقترحات لاتفاق خروج بريطانى جديد وهو يعلم أن الاتحاد سيرفضه، ومن ثم يعود إلى لندن ويعلن أن الاتحاد هو الذى رفض الاتفاق الجديد، أى إنه هو الذى قرر أن تخرج بريطانيا بدون موافقته على الاتفاق الذى قدمته، ويرى جونسون أنه بذلك يدرأ عن نفسه تهمة الخروج بدون اتفاق.
ولكن إذا لم تنطل هذه الحيلة على البرلمان البريطانى وأصر على طلب مهلة أخرى للخروج تمتد حتى 31 يناير 2020 ففى هذه الحالة قد يجد جونسون نفسه مجبرا على الاستقالة وأن تكلف الملكة شخصا آخر بتشكيل حكومة انتقالية تطلب التمديد من الاتحاد الأوروبى وتعد لانتخابات مبكرة. وتكون كل الطرق التى اختارها جونسون قد سدت أمامه ولم يبق له إلا أن يرشح نفسه فى الانتخابات إن كانت ثمة فرصة لفوزه فيها بعد كل هذه الانقسامات التى أثارها والهزائم التى لحقت به.
مساعد وزير الخارجية الأسبق وعضو المجلس المصرى للشئون الخارجية.