تحديات العولمة وتأثيرها على الاقتصادات الناشئة - محمد الهوارى - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 4:42 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تحديات العولمة وتأثيرها على الاقتصادات الناشئة

نشر فى : السبت 19 أكتوبر 2019 - 10:05 م | آخر تحديث : السبت 19 أكتوبر 2019 - 10:05 م

أتذكر وقت تعليمى الجامعى فى أوائل التسعينيات ثم ما بعد الجامعى أواخرها أنه كان هناك فكرة طاغية على كيفية إدارة الأعمال فى عالم جديد أكثر تواصلا، عالم كان يتميز بثورة اتصالات مخيفة، ففى البدء أصبحت الاتصالات الدولية أسهل وتستطيع القيام بها من منزلك أو مكتبك، تلى ذلك اختراع الفاكس فاختفى التلكس، ثم جاءت التليفونات الخلوية ونتذكر جميعا ايريال التليفون الخلوى فوق بعض السيارات فى مصر كعلامة على الأهمية وجاء بعد ذلك ثورة الانترنت والبريد الإلكترونى ثم التليفون المحمول ثم الإنترنت على التليفون المحمول، فى نفس الوقت، تطورت تكنولوجيا المواصلات بسيارات أكثر سرعة وصناعة شحن برى وبحرى وجوى أكثر كفاءة ومنافسة وبالتالى أقل سعرا، كل ذلك جعل الفكرة الطاغية علينا أبناء التعليم التسعينى هى العولمة Globalization. صرنا ننظر إلى فكرة «ترشيد الصناعة» Rationalization of Production كشىء مفروغ منه، وفكرة ترشيد الصناعة فى شكلها المبسط تقول إنه إذا كنت تنتج تليفزيونا مثلا لماركة عالمية فأنت لا تحتاج لمصانع تصنع من الإبرة للصاروخ على الطراز الستينى ولكن تحتاج لإنتاج زجاج التليفزيون كله فى مصنع واحد فى المنطقة الأقل تكلفة لذلك فى كل العالم ثم تنتج البوردات فى مصنع آخر قد يكون فى منطقة أخرى من العالم وتنتج الهيكل الخارجى فى مصنع قد يكون فى بلد ثالث فى قارة ثالثة وهكذا، ثم تقوم بتجميع هذه المكونات فى بعض المصانع الإقليمية وتبيع منها مباشرة للأسواق، من هذه الفكرة نشأت سلاسل القيمة وسلاسل التوريد العالمية Global value and global supply chains. تأثيرات العولمة وتحدياتها السياسية عديدة ومهمة ولكنها ليست مجالنا وسوف نتطرق لها باقتضاب فى سياق موضوعنا عند اللزوم، وموضوعنا هو تحديات العولمة على المستوى الاقتصادى وتأثير هذه التحديات على اقتصاداتنا الناشئة وحتى حياتنا اليومية وما نراه كسبل لمواجهة هذه التحديات.
يبدو كالعادة أن التكنولوجيا سبقت الحكومات وجعلت العالم «قرية صغيرة» أسرع مما كانت الحكومات تتخيل وأيضا أصغر مما كانت تحلم، التطور الشرس والسريع للعولمة بالتأكيد ساهم فى حالة الخوف من الآخر أو الخوف من الأجنبى التى تجتاح العام أوقات بسبب وكثير بدون سبب، وكذلك ظهور الكثير من نظريات المؤامرة التى يغذيها وجود أحداث حقيقية تتحدى أخصب خيال، هذا التسارع تسبب فى ردة عنيفة عن العولمة نرى آثارها اليوم فى نتائج الانتخابات التى تفضل المرشحين الشعبويين، كذلك نراها فى الحرب التجارية ونراها فى البريكزيت، هذه الردة تتسبب اليوم فى مراجعات لأمور كانت مسلم بها لمدة ما يقارب عقدين من الزمان، منظمة التجارة العالمية فى تحد لإيجاد دور جديد وفعال لها يتواءم مع هذه الفترة التى تكاد تهدد تواجدها، التكتلات التجارية تعاد رسمها وتعيد حساباتها، نرى ذلك فى مراجعة اتفاقية النافتا وفى اتفاقيات وتكتلات جديدة فى آسيا وإفريقيا، بريكزيت يعنى إعادة اتفاقيات التجارة الحرة لبريطانيا مع عشرات من دول العالم وأهمها على الإطلاق مع أوروبا، الخلافات بين بعض دول مجلس التعاون الخليجى يعنى ضرورة إيجاد حلول جديدة بالتوجه غربا لمصر وإفريقيا وشرقا للهند وربما باكستان والصين، العالم يعيد رسم خريطته الصناعية والخدمية بل والتمويلية، الدول المتقدمة من أعضاء الـ OECD بصدد وضع أسس جديدة للنظام الضريبى العالمى المعمول به قرابة المائة عام وهو تطوير تأخر كثيرا وهدفه مواءمة وجود هذه الشركات العالمية العابرة للقارات، هذه الشركات استفادت كثيرا من النظام القديم بتركيز معاملاتهم فى دول منخفضة الضرائب مثل هولندا وجزر الكايمان مما تسبب فى ضياع تريليونات على الحكومات المختلفة، بعض هذه التغييرات محمودة ومطلوبة ولكن بعضها سوف يكون له آثار سلبية ومنها:
سوف يحدث بالتأكيد تكسير وإعادة رسم سلاسل القيمة لمختلف الصناعات وربما بعض الخدمات.
بالتالى سوف ينتج عن ذلك ارتفاع فى تكاليف الإنتاج مما سيتسبب فى ضغط هوامش أرباح الشركات وغالبا سيستتبع ذلك ارتفاع فى التضخم العالمى.
تصاعد التوترات الجيوسياسية بين الحلفاء قبل الأعداء، رأينا ذلك فى بعض التوترات بين أمريكا والمكسيك وبين اليابان وكوريا الجنوبية وبين أمريكا والصين وسوف نرى بالتأكيد المزيد من التوترات فى الأعوام القادمة.
تنافسية أقل للاقتصادات الناشئة التى استفادت لسنوات من مميزات مع الدول الكبرى وقد تستمر هذه الامتيازات ولكن بالتأكيد ثمنها سوف يكون أعلى فى صورة اشتراطات خاصة من الدول العظمى. بمعنى آخر، سوف يكون دخول الأسواق العالمية أصعب مما تعودنا فى العقدين السابقين خاصة للشركات القادمة من الأسواق الناشئة.
الدول الناشئة تحتاج لصرف الكثير لإعمار وبناء مجتمعاتها، ارتفاع التضخم يعنى ارتفاع فاتورة البناء والتعمير مما يصعب المهمة.
إذن فكيف تتغلب الدول الناشئة على هذه المصاعب وكيف تتحرك من هنا؟ أولا يتوجب على الدول الناشئة اتباع سياسة عدم الانحياز خاصة فى النزاعات بين الدول الكبرى، المكاسب من أى انحياز سوف تكون فى معظم الأحوال محدودة وبالتأكيد لن توازى الخسائر، ثانيا يتوجب علينا النظر إلى تكتلات وأسواق جديدة، الولاءات والصداقات فى الشرق الأوسط صارت واضحة ونستطيع الخروج منها بتحالفات اقتصادية قوية،كذلك إفريقيا، مصر ما زالت لها موقع ريادى وأغلب الدول الأوروبية ما زالت تنظر لمصر كبوابة للدخول إلى إفريقيا، لكن الريادة الإفريقية اليوم تحتاج لعمل جاد ودءوب لأن مصر أصبح لها منافسون أقوياء داخل القارة منهم المغرب التى سبقتنا بمناطق اقتصادية وقوانين خاصة للشركات التى تتخذ من المغرب مركزا رئيسيا لعملياتها الإفريقية، ثالثا وأخيرا يجب إعادة النظر فى استراتيجية الصناعة والخدمات لضمان التنافسية على مستوى إقليمى وعالمى، دائما ما أعطى مثالا لذلك صناعة الحديد والصلب فى مصر والتى كانت فى يوم من الأيام صناعة استراتيجية ولكن اليوم اذا نظرنا لها بطريقة موضوعية سنجد أنها قد تشكل عبئا على المواطن وعلى الدولة، مدخلات هذه الصناعة فى التكنولوجيا الحديثة أربعة: خامات، كهرباء، مياه، تكنولوجيا، للأسف مصر ليس لديها ميزة تنافسية فى أى من هذه المدخلات ولذلك دائما ما تعتمد هذه الصناعة على رسوم حمائية لتستطيع المنافسة محليا؛ حيث إن منافستها العالمية حتى إقليميا شبه مستحيلة مع منافسين يملكون العديد من مقومات هذه الصناعة، قد يكون من المفيد أن نعيد النظر فى خطة طويلة الآجل للخروج من هذه الصناعة والدخول فى صناعات أخرى لنا فيها ميزة تنافسية أفضل. وأقول طويلة الأجل حتى نحد من تأثير هذا التخارج على عمالة هذه المصانع وإعادة تأهيل من يتبقى منهم تحت سن المعاش للخدمة فى صناعات أخرى قد تكون أكثر تنافسية وتسمح بجذب رءوس الأموال المصرية والأجنبية لخلق صناعات كبيرة وقوية على المستوى العالمى.

محمد الهوارى مدير صناديق استثمار دولية
التعليقات