إلا الحياء العام! - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 11:13 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إلا الحياء العام!

نشر فى : الأربعاء 20 يناير 2021 - 7:40 م | آخر تحديث : الأربعاء 20 يناير 2021 - 7:40 م

لطالما طعمت الجدات والأمهات تعليماتهن لبناتهن بكلمة «عيب». كلمة واسعة وفضفاضة ترمى بها الأمهات والمجتمع عموما على أى موقف مثير للجدل فينتهى النقاش. عيب إذا نتوقف. عيب إذا لا تفاوض ممكن. مفاهيم عامة أعرفها وأراعى خطوطها الحمراء مع محاولات مستمرة منذ مراهقتى بتعريف ما هو باهت الحمرة وشديد الحمرة بغية التحرك داخل مساحة أوسع وتحدى من حولى قليلا حول المسلمات المجتمعية.
**
هذه المقدمة هى بمناسبة الهلع الذى أثارته صور مسربة لمجموعة سيدات فى القاهرة تلقين، عن قصد أو بشكل خاطئ، حلويات أزعجت الكثيرين بسبب ما وصف على أنه «إيحاءات جنسية». وهكذا قامت القيامة على شبكات التواصل الاجتماعى مع نداءات من البعض أن يتم محاكمة السيدات وأصحاب محل الحلوى المسئولين جميعهم عن خدش الحياء العام.
***
للصدفة، أعدت منذ أيام قراءة ملاحظات سجلتها منذ سنوات طويلة فى بداية علاقتى مع القاهرة، حين قرأت دراسة عن طريقة التطرق لموضوع الجنس فى الطبقات المختلفة. سجلت فى دفترى وقتها عادة أن ترمى السيدات فى بعض الأحياء الشعبية الماء أمام منازلهن يوم الجمعة، للدلالة على انتهائهن وأزواجهن من الاستحمام قبل صلاة الجمعة وبعد ليلة الخميس بما يحمل ذلك من دلالات تحرص النساء على إظهارها أمام الجيران. قرأت أيضا ملاحظة كنت دونتها فى نفس الفترة من زميلة كانت تكبرنى بسنوات وتنصحنى كثيرا حول ما يجوز ولا يجوز، «يصح وما يصحش» بحسب قولها، وفقا للحياء العام، مع التأكيد أنها كانت تنصحنى من موقعها فى طبقة تعد راقية من المجتمع القاهرى، فكانت تنهرنى إن خرجت من بيتى فى الصباح بشعر مبلل، وتقول إن بواب العمارة قد يظن بى سوءا، وفى ذلك إشارة إلى كونى، فى حينها، شابة غير متزوجة أعيش وحدى بعيدا عن عائلتى بحكم مهنتى التى تفرض على التنقل.
***
فى تعريف «العيب» الكثير من المساحة، فمن الممكن أن ينطوى تحت العيب كل ما هو غير مريح، كل ما يصعب تقبله لأسباب مختلفة، قد تكون دينية أو سياسية أو ثقافية، مع التأكيد أن الثقافة مفهوم شديد التغيير أصلا. العيب هو كل ما لم يتعود عليه مجتمع وكل تصرف قد يبدو، على الأقل لوهلة، أنه دخيل على الثقافة المحلية العابرة للأجيال.
***
ازداد اهتمامى بتعريف «العيب» منذ أن ازداد اهتمامى بالحقوق عموما وبدور القانون فى المجتمعات وتعريف العام والخاص وفهم دور الشريعة والدين فى القانون وفى الحكم المجتمعى. ازداد خوفى من التعريف الفضفاض حين بدأت أنا نفسى أستخدم كلمة «عيب» مع أطفالى لأنهرهم عن تصرفات أرى فيها قلة احترام أو استهتار لا أتقبله فى طريقة كلامهم أو جلوسهم أو معاملتهم لمن حولهم.
***
أظن أن أكثر ما يشغلنى هو إمكانية أن يحافظ مجتمع على مساحة الفرد الخاصة مع وضع إطار لما هو مقبول لمجموعة. أظن أيضا أن ما يقلقنى هو قلة تطور بعض المفاهيم الحقوقية فى معظم مجتمعات المنطقة بسبب شح الفضاء العام الذى يسمح بالنقاش بعيدا عن التخوين والتهديد. فكلما انتشرت قصة يعتبرها جزءا من المجتمع «فضيحة»، كلما ارتفعت دون هوادة أصوات تطالب أحيانا بإعدام أصحاب الـ«فضيحة».
***
كيف يناقش مجتمع مواضيع صعبة فى ظل هذا الكم الهائل من العدائية ومن العنف فى الحكم على الناس؟ كيف بإمكانى أن أحرر نفسى ومن بعدى أولادى من بعض القيود دون أن أتهم بأننى أشجع على الانحلال؟ ما هو أصلا تعريف «الانحلال»؟ وقبل أن تسألنى صديقة «لماذا تكترثين بما يقال عنك» أجيب أننى طبعا أكترث لأسباب معقدة ومركبة فى جوهرها إشكالية أننى، خصوصا كأنثى، ما زال بوسعى أن أجلب «العيب» لمن حولى، لذا فها أنا فى حلقة مفرغة من العيب!
***
أن يستنكر البعض أشكال الحلويات التى تسربت صورها أمر مقبول، لكن أن يتحول الموضوع إلى موضوع شأن عام تناقشه برامج فى التلفزيون وكأنها المرة الأولى التى يباع فيها هذا النوع من الحلويات فهو أمر عجيب فى بلد تقام فيها ليالى الحنة قبل الزواج احتفالا بما ستجلبه ليلة الدخلة من تفاصيل تكرر كلها فى أغانى الحنة! فى بلد تبوأ لسنوات منصبا متقدما فى نسبة تحرش رجاله بالنساء فى معظم الطبقات الاجتماعية دون إجراءات قانونية تردع التطاول على النساء، ها نحن نمضى أياما نناقش موضوع الحلويات التى تسربت صورها دون علم من فيها ودون أن ينصب الحكم على من سرب الصور الخاصة، عجبى.
***
فى كل حادثة يغطى فيها موضوع «العيب» و«خدش الحياء العام» الموقف الجماعى، أسأل نفسى كيف يتغلب «خدش الحياء العام» على «انتهاك الخصوصية الفردية» فتظهر مشانق مجهزة سلفا بحسب قياسات فضفاضة حول ما «يجوز ولا يجوز»، ما «يصح وما يصحش»، ما «بصير وما بصير»، كلها تعنى الشىء ذاته: ما هو متعارف عليه من مسلمات يصعب فتح ملفاتها فى المجتمع، لذا فمن الأسهل أن ينقض المجتمع على موضوع دون مساءلة ودون مراجعة المفاهيم أصلا: هل ما زالت هذه المفاهيم كلها ذات صلة، أم بات من الضرورى أن تراجع؟
إلا الحياء العام!

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات