يتكرر الحديث كل حين عن مسألة النظام العالمى، وعادة يضاف إليه كلمة توحى بالغموض وهى كلمة الجديد، ليصبح النظام العالمى الجديد بدون توضيح لما هو الجديد بالضبط. وتشير هذه الكلمة لمعانٍ عدة، منها أن العالم الذى نعيش فى ظله الآن يعاد تشكيله وسينتج عنه عالم جديد. ولكن أحدا لم يقل كيف سيكون ذلك العالم. ولو أمعنت النظر فيما هو متداول بهذا الخصوص فقد تجد تيارات متضاربة من الآراء حول ماهية النظام العالمى الجديد. فهل هو النظام الذى لا تكون فيها أمريكا قطبا مهيمنا ومتربعا على ترتيب شئون العالم. أم هو النظام الذى يتوغل فيه عالم الديجيتال الموازى وتطبيقاته، لاسيما السوشيال ميديا، ليغير العلاقة بين الآلة والإنسان. وماذا سيحدث فى طبيعة هذه العلاقة بعد دخول تقنية الميتافيرس فى نسيج المجتمعات ليصبح عالما موازيا مرئيا ومحسوسا. أم هو النظام الذى يتجاوز الدول ليصنع عالم ما بعد الدول، ولكن كيف يبدو ذلك العالم بلا حدود سياسية، كالتى نفهم على أساسها حدود الدول ومناطق سلطتها ومجال نفوذها الحيوى والاستراتيجى. وبتتبع الكتابات فى هذا الشأن تجد كبار الساسة والمفكرين فى الغرب والشرق يتصدون لهذا الموضوع. ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، هنرى كيسنجر وكتابه النظام العالمى، ومنهم ريتشارد هاس، مستشار الأمن القومى الأمريكى الأسبق وكتابه نظام عالمى جديد 2، ومنه وزير الخارجية الروسى الحالى سيرجى لافروف الذى يكرر التصريح منذ عام 2017 عن النظام العالمى الجديد.
وتسيطر فكرة مركزية على مفهوم النظام العالمى هذا: تتراوح بين نظام يهيمن عليه قطب واحد مثل الولايات المتحدة، أو نظام ثنائى القطبية، مثلما كان حال العالم بعد الحرب العالمية الثانية وانقسام العالم بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، وصولا إلى نظام متعدد الأقطاب، مثلما غلب على أوروبا طيلة قرون وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى. ولذلك لو أن مفكرا يتحدث عن نظام عالمى جديد وفيه يقصد هبوط قوة الولايات المتحدة وصعود قوة الصين، ومن ثم يسود نظام ثنائى القطبية، فلا نظام جديدا فى ذلك. وينطبق نفس الأمر لو المقصود هو متعدد القطبية، بمعنى توزع القوة بين أمريكا، والصين، وأوروبا، وروسيا، فلا نظام جديدا فى ذلك أيضا. فلقد ساد أوروبا خمس قوى لفترة زمنية طويلة، وهى بريطانيا، وفرنسا، والنمسا، وروسيا، وبروسيا، واقتسمت النفوذ واحتلال دول العالم فيما بينها. ويربط بعض المفكرين بين النظام متعدد الأقطاب وبين الحروب العالمية، ويستشهدون بما جرى فى الحرب العالمية الأولى والثانية. بينما يربطون بين الاستقرار العالمى ونظام الأحادى القطبية. وبغض النظر عن موضوع الاستقرار من عدمه، يبدو أن فكرة النظام العالمى طبقا لهذه الكتابات تشير إلى عالم ينقسم إلى دول، وهذه الدول مرتبطة بترتيبات، ارتضت بها أو مجبرة عليها، أو متوافقة حولها. ونتج عن هذه المعادلة ترتيب عالمى أو نظام عالمى ساد فى قارات الدنيا. وقد تكون الأمم المتحدة ــ وقبلها عصبة الأمم ــ ترجمة لهذا النظام، حيث تجتمع الدول فى منظمة دولية ترسخ شكل الترتيب أو النظام العالمى، وهى معنية بالسلم والاستقرار الدولى.
• • •
لاحظ أن المقصود بالدولة التى هى الوحدة الأساسية للنظام الدولى، والتى يقوم على أكتافها النظام العالمى، أن أهل البقعة الجغرافية هم دولة من دون الناس. وساد هذا المفهوم منذ القرن السابع عشر بدءا من أوروبا، ثم حملته معها سفن الإمبراطوريات الأوروبية ونقلته إلى دول العالم المستعمرة. ولما تخلص العالم من الاستعمار فى موجة كبرى بعد الحرب العالمية الثانية، لم تعد الدول على ما كانت عليه قبل الاستعمار، بل استمرت بمفهوم الدولة ذات البقعة الجغرافية أو الإقليم. وقبل القرن السابع عشر لم يكن هذا المفهوم هو السائد، فلم تكن الدول تقوم على رابطة الإقليم، ولكن تقوم على رابطة الأخوة المبنية على أساس العقيدة. والمفارقة أن ذلك النظام العالمى القديم شهد بدوره نفس الأفكار حول الهيمنة الإقليمية والدولية. وتراوح بين نظام يخضع لسيطرة قطب مهيمن مثل الدولة الرومانية لقرون والدولة الإسلامية لقرون أيضا. كما شهد انقسام العالم لقطبين، مثل الدولة الرومانية الشرقية والغربية، ومثل الدولة البيزنطية والفرس، ومثل الدولة العباسية والأموية، كما شهد عالما متعدد الأقطاب، مثل الدولة العباسية، والفاطمية، والأموية، والبيزنطية، والرومانية المقدسة. ثم تبدلت الدول وتوسعت الرقعة من الصين إلى الأندلس، وشهدت التتار، والدولة الصفوية، والدولة العثمانية، والقياصرة الروس، والدولة الرومانية المقدسة، وفرنسا، وبريطانيا.. إلخ. وكلما زادت الأقطاب المهيمنة كلما زادت الحروب بينها، مع اختلاف القضايا المثارة. فبينما لعبت العقيدة الدور المركزى فى مواجهات الماضى، حتى داخل أوروبا ذاتها، تراجعت العقيدة الدينية بالتدريج وحل محلها عقيدة مرتبطة بالأرض وحدود الدول منذ القرن السابع عشر.
• • •
لذلك لا فرق حقيقيا بين نظام عالمى قديم ونظام جديد إلا فى القضايا التى يتصارع حولها الناس. وإذا أخذنا السجال الدائر حاليا بين روسيا من جانب وأوروبا والولايات المتحدة من جانب آخر، فلن يسفر هذا الملف عن عالم جديد. فالقضية الأساسية فى السجال هى الأمن. وما تريده روسيا ألا تجد الناتو على حدودها الغربية، وما تريده أوروبا وأمريكا ألا تتقيد توسعات الناتو بشروط دولة من خارج الناتو. وبالتالى كل المسألة حول ترتيبات الأمن التى تشعر معها كل دولة بأنها فى مأمن من تحركات الطرف الآخر فى مجالها الحيوى. وما جاء فى إعلان مشترك من الصين وروسيا حول توافقهما على رؤية روسيا فى الأزمة الأوكرانية ليس إلا منافع متبادلة بين الطرفين. فقبل أن تعضد بكين من موقف موسكو، حصلت من الأخيرة على اعتراف بأن تايوان جزء لا يتجزأ من الصين. هذا ومصالح الصين مع الولايات المتحدة أكبر من مصالحها مع روسيا. كذلك هواجس روسيا من انصياعها للصعود الصينى قد لا تقل كثيرا عن قلقها من اقتراب الناتو لحدودها، ولكن لكل مقام مقال. وبدورها لم تشغل هذه الأزمة الولايات المتحدة عن العملاق الصينى، فقامت بعمل لقاء رباعى ضم اليابان والهند وأستراليا لاحتواء الخطر الصينى. وكما ترى الكلام هنا عن أمن الدول ومن الذى يهيمن على الأقاليم. ولو افترضنا أن أزمة فى أوكرانيا أو أخرى غير متوقعة فى تايلاند، أدت لارتفاع وتيرة التوتر إلى درجة تخطت حسابات المصالح، ووصلت إلى مستوى المعادلة الصفرية، فلن ينتج عن هذا عالم جديد، ولا نظام عالمى جديد. فالأفكار هى التى تصنع الجديد وليس القوة، والعالم مر بهذه التجارب والحروب على مدار ثلاثة قرون ولم تتغير القضايا بين الأمن والمصلحة وهلم جرا.