واجهتنا الفترة السابقة تطورات متلاحقة فى ملف التعليم، أهمها تصعيد أولياء الأمور لمطالبهم بتطوير المناهج. وتبع ذلك ظهور وزير التعليم فى وسائل الإعلام لعرض برنامج الوزارة للتطوير، والتأكيد على متابعته لثورة الأمهات الإلكترونية على المناهج وتجميع توصياتهم وشكاواهم. وطالعتنا الحكومة ببرنامجها للتعليم الذى يدور فى فلك الآليات والوعود القديمة فى ظل وضع تعليمى لا يجدى معه إلا حلول جذرية مبتكرة.
الهدف من المقال الحالى هو التأكيد على الوصول لجذور مشكلة المناهج وحلولها وإيصال رسالة هامة للأمهات مفادها: «استكملوا ثورتكم على المناهج العقيمة والامتحانات المكبلة ولكن لا تستهينوا بقدرات أبنائكم، فتقليص وتبسيط المناهج ليس هو الحل. وإنما الحل الحقيقى يكمن فى مناهج تنمى التفكير والمهارات وتنفتح على معارف واسعة وشيقة لا يتم تقييمها بامتحانات الحفظ والغش».
وسنوضح فيما يلى أن إشكالية المناهج لا يمكن حلها دون إصلاح منظومة التقويم - الامتحانات، ونرجو من الأمهات عدم التوجه للوزارة بمطالبهن، لأنها لن تقدم إلا الوعود المعتادة، وندعوهن للتوجه للقيادة السياسية ولمجلس النواب الذى يجب أن يضع الإصلاح التشريعى الذى يفصل وضع المناهج والامتحانات وطباعة الكتب عن المصالح الضيقة المسيطرة عليها فى الوزارة، ويقوم بدوره الرقابى على هذه الآليات.
ونحن الآن أمام فرصة فريدة للإصلاح فى ظل الزخم الذى خلقته الأمهات وفى ظل قانون جديد للتعليم، من المنتظر أن يتم مناقشته فى مجلس النواب.
نقول للأمهات ليست المشكلة فى تعرض أطفالكن لمعلومات واسعة عن دول أخرى ومناخها أو عن مصر وتاريخها، فلتنظرن فقط كما من المعارف يتعرض إليها الأطفال الذين يتابعون مختلف البرامج على شاشات الأجهزة والمواقع الإلكترونية المختلفة. وليست المشكلة أن يقرأ الطلاب كتاب أو كتابين كاملين فى المنهج بل يجب أن نطمح أن يقرأوا عشرات الكتب فى السنة الواحدة. المشكلة هى أن تأتى أسئلة فى الامتحانات لا تختبر إلا سرد الأحداث وطرق تصحيح لا تكافئ إلا النص المذكور فى الكتاب. إن ما ينفر الأطفال من الكتب والتعليم والمدارس ككل ينبع من طرق التقويم التى تتوقع منهم حفظ كتب بأكملها ولا تقيس مهاراتهم ومعارفهم. بل إن الجهود المتضاربة «لتخفيف العبء على الطلاب» و«تنقية المناهج من الحشو» تؤدى إلى تستطيح المناهج وجعلها أقل ترابطا وإحكاما وهذا يجعلها أكثر صعوبة. فالسرد «الذى ننعته بالحشو أحيانا» الذى يحذف من المناهج فى بعض الأحيان هو الذى يشرح للطالب الخلفية التى تسهل عليه تذكر الأحداث وإدراك أهميتها ويحبب الأطفال فى المادة المقدمة ويرسخها ويعطى معنى وسياقا للموضوع. أما الاهتمام الشديد بالدرجات «المبنية على الحفظ» فيؤدى إلى اختزال المناهج فى قوائم من النقاط والتواريخ والمعاهدات والأحداث تجاهد الأمهات والمعلمين لكى يحفظها الطلاب ليكتبوها فى الامتحانات وينسونها فى نفس اليوم. فالمشكلة ليست فى السرد ولكنها فى التوقع الغريب أن يقوم الطالب بحفظ هذا السرد عن ظهر قلب، وفى سوء اختيار وصياغة وعرض هذا السرد والشرح.
***
فالمشكلة تكمن إذن فى المناهج والامتحانات معا، ولكن الأهم من كليهما هى المصالح المستفيدة من هذا التعقيد. ولكى نصل إلى سبل فعالة للحل يجب أن نلخص المشكلة فى نقاط محددة. أولا: مناهج وامتحانات «غير مبنية على أساس تربوى سليم» بمعنى أنها لا تنمى التفكير والإبداع والمهارات المختلفة وتعتمد على الحفظ والتلقين، لا تقدم بطريقة شيقة أو مقنعة ولا تتسلسل بطريقة منطقية مناسبة للمراحل العمرية المختلفة. ثانيا: مناهج طويلة لا تتناسب مع كون العام الدراسى فى مصر من أقصر الأعوام الدراسية على مستوى العالم، هذا بالإضافة إلى جداول امتحانات لا تراعى متطلبات الطلاب للاستعداد للاختبار. ثالثا: تضخم تكلفة التعليم من دروس خصوصية وكتب خارجية بسبب السعى لتحصيل هذه المناهج المستحيلة، مما أدى إلى استنزاف دخول الأسر ومجهود الأمهات والأطفال، وتضخم مصالح مافيا الدروس والكتب. رابعا: حرمان الأطفال و«الأمهات» من نشاطاتهم الرياضية والترفيهية والاجتماعية والثقافية، مع تزايد ما قد يصاحب ذلك من مشكلات نفسية وصحية من انخفاض اللياقة البدنية إلى انتشار السلوكيات العدوانية أو السلبية. خامسا: انخفاض واضح فى مستويات التحصيل، بالرغم من كل هذا الكم من المناهج وكل هذا الإنفاق على التعليم، ويتبين ذلك فى الاختبارات العالمية للرياضيات والعلوم والأهم منها أزمة طلابنا من الابتدائى إلى الجامعة مع مهارات قراءة وكتابة اللغة العربية. ذلك لأن المناهج الركيكة والتركيز على الحفظ لن يمكن الطلاب من التحصيل التراكمى الحقيقى، وحرمانهم من الأنشطة المتنوعة يؤدى للتمرد على التعليم وكراهيته وعدم القدرة على استيعاب المواد التعليمية.
ألا يبدو أن الحل بسيط للغاية ويكمن فى: مناهج وطرق تقويم متطورة تتم صياغتها على أسس علمية فى إطار عام دراسى أطول وجداول امتحانات مناسبة؟ بل إن هذا الحل البسيط لن يتكلف إلا بعض الجهد التنظيمى وميزانية صغيرة. لذا يجب أن نتساءل لماذا لم يحدث هذا التطوير البسيط من عقود مضت، بل إن المشكلة لا تزداد إلا سوءا وتعقيدا. هل يمكن أن نصدق أن هناك نية حسنة وإرادة فعلية للتغيير لدى قيادات الوزارة؟ أم إن هناك مصالح متجذرة توضع فوق مصلحة باقى المواطنين؟ هل حجم المناهج متضخم والكتب الرسمية رديئة لكى تكون هناك ذريعة واضحة وحجة قوية للاعتماد على الدروس الخصوصية والكتب الخارجية؟ أما إذا افترضنا حسن النية، هل يمكن أن يكون السبب هو ضعف الموارد المادية والبشرية؟ إن إصلاحا شاملا للمناهج والامتحانات على أسس علمية يتطلب بالفعل ميزانية كافية لاستقطاب المهارات التربوية العالمية والعربية والمصرية وتنظيم عمل منهجى فى هذا المضمار. لكن ميزانية كهذه تعد ضئيلة مقارنة مثلا بتكلفة بناء المدارس «التى نشيدها لنستكمل بها نفس طريقة التعليم العقيمة». وإذا كانت الدولة تضمن على تعليم الأجيال القادمة بالموارد اللازمة له، كان ممكنا الاستعانة بالعديد من المؤسسات الدولية والجهات المانحة فى هذا الصدد، ولكنها كانت تمنع من تطوير المناهج تحت دواعى الهوية والأمن القومى، مع عدم وجود ما يمنع من الرقابة الوطنية الكاملة على أى عملية للتطوير.
***
رسالتنا للأمهات إذن أن التغيير يبدأ من إقصاء شبكة المصالح التى تتحكم فى وضع المناهج والامتحانات من خلال: استقلال وضع المناهج والامتحانات وطباعة الكتب عن شبكات المصالح القائمة داخل الوزارة. ولن يتم ذلك إلا من خلال إطار تشريعى جديد يحرر هذه المهام من الجهات التى كانت هى أصلا السبب فى وصولنا لهذا الوضع ويفرض رقابة فعالة مستمرة على الآليات الجديدة للحفاظ على استقلاليتها وكفاءتها. فتوجهوا للبرلمان فى ذلك وليس للوزارة التى لم تكف عن إطلاق الوعود القديمة بتطوير رائع وشامل لتهدئة ثورتكم، بل وتطلق تصريحات متزامنة تشيد بالمناهج المصرية التى «تتفوق على سنغافورة وتقارب الولايات المتحدة».
فى النهاية نؤكد على الفخر بثورة الأمهات من أجل تنمية سليمة للأجيال القادمة. تلك الأمهات، حتى وإن كان معظمهن ممن يلتحق أبناؤهن بمدارس اللغات «رسمية وخاصة» التى يندرج فيها أقل من ٥٪ من طلاب مصر، يمثلن أملا حقيقيا لتطوير تعليم الطبقات الأقل حظا التى يتلقى أطفالها نفس المناهج والامتحانات، مع التأكيد على ضرورة إخضاع التعليم الفنى بشكل شامل لهذا التطوير، وهو الذى يلتحق به أكثر من نصف طلاب المرحلة الثانوية فى مصر.
باحثة متخصصة فى مجال تطوير التعليم.