بدعوة كريمة من معهد التخطيط القومى، شرُفت بالمشاركة فى فاعليات المؤتمر الدولى حول «التصنيع والتنمية المستدامة»، والذى عقد بمقر المعهد بالقاهرة خلال الفترة 5 ــ 6 مايو 2018. وكما جاء فى الكلمتين الافتتاحيتين للدكتورة هالة السعيد وزيرة التخطيط والمتابعة والإصلاح الإدارى والدكتور علاء زهران رئيس المعهد، فقد استهدف المؤتمر مناقشة سبل الاستفادة من الخبرات والتجارب الدولية المعاصرة فى دعم استراتيجيات التصنيع المستدام فى مصر فى إطار الأهداف العالمية للتنمية المستدامة ورؤية مصر 2030. وخلال جلسات المؤتمر، قُدمت أوراق علمية ورؤى عرضها نخبة من الباحثين والمتخصصين فى قطاعات الصناعة فى مصر وخارجها، والتى تطرقت إلى العديد من المحاور المهمة فى علاقة التصنيع بالتنمية المستدامة. وفى الحقيقة، لم يكن اختصاصى الأكاديمى فى اقتصاديات الزراعة والغذاء هو دافعى الأول لأن تركز ورقة العمل ــ التى عرضتها بالجلسة التى أدارها الدكتور عثمان محمد عثمان وزير التخطيط الأسبق ــ على فرص وتحديات مساهمة القطاع الزراعى والصناعات الزراعية والغذائية فى تحقيق أهداف التصنيع المستدام فى مصر؛ وإنما ما دفعنى لذلك هو الدور المحورى الذى لعبته هذه القطاعات فى إنجاح تجارب التحول البنيوى التى مرت بها العديد من الدول خلال النصف الثانى من القرن العشرين، كاليابان وكوريا الجنوبية، ثم الصين والبرازيل، والتى تطرح دروسا مهمة يمكن أن تسترشد بها مساعينا نحو التنمية الصناعية المستدامة، ومنها ما يمكن استعراضه بإيجاز فى النقاط التالية.
***
أولا: بمراجعة استراتيجيات تنمية وتحديث الصناعة التى تبنتها الحكومات المتعاقبة خلال العقدين الأخيرين، نجد أن أغلبها تكاد تخلو نصوصه من مجرد الإشارة إلى قطاع الزراعة والصناعات القائمة على الإنتاج الزراعى، ناهيك عن احتوائها على آليات واضحة للاستفادة من إمكانات هذا القطاع وإدماجه فى برامج تنمية وتطوير الصناعة المصرية. وفى وجهة نظرى، فإن إغفال دور القطاع الزراعى يعكس على نحو كبير مشكلة أصيلة فى أسلوب تخطيط وصناعة السياسة الاقتصادية فى مصر، والذى تصاغ من خلاله استراتيجيات تنمية كل قطاع بمعزل عن القطاعات الأخرى، ويكأن هذه القطاعات خطوط متوازية لا تتقاطع مع بعضها البعض. على النقيض من ذلك، نجد أن القطاع الزراعى قد شكل العمود الفقرى للكثير من النظريات والنماذج الكلاسيكية للتنمية الاقتصادية، كما أن تجارب التحول البنيوى والتنمية الاقتصادية الناجحة للدول المشار إليها تُظهر أن القطاع الزراعى كان العامل المشترك فيها والدرجة الأولى فى سلم تحولها نحو التصنيع الكامل. فبجانب المساهمة المباشرة للصناعات الزراعية فى بناء القطاعات التصنيعية للدول النامية، فإن هذه الصناعات تقوم بأدوار حيوية فى التنمية الاقتصادية الشاملة من خلال ثلاثة محاور رئيسية وهى: تأثيرها الإيجابى على الأمن الغذائى والتقليل من حدة الفقر من خلال رفع القيمة المضافة وخفض فاقد الحاصلات الزراعية، كما أن كثافة العمالة التى تتسم بها هذه الصناعات تساهم فى توفير فرص عمل وخلق أنشطة مولدة للدخول فى المناطق الريفية التى ترتفع فيها مستويات الفقر والبطالة، هذا بالإضافة إلى دور هذه الصناعات فى إنفاذ سياسة إحلال الواردات وقدرتها على تقليل الآثار الناتجة عن تقلبات الأسعار الزراعية فى الأسواق العالمية؛ نظرا لتمتع السلع الزراعية المصنعة بدرجات من الاستقرار السعرى تفوق المنتجات الزراعية الخام غير المصنعة.
ثانيا: لا شك أن هيمنة النموذج النيوليبرالى المعولم على اقتصادات الدول النامية ــ ومن بينها مصر ــ طيلة العقود الثلاثة الأخيرة قد صاحبه تراجع عشوائى فى الدعم الموجه للقطاعات الزراعية؛ وهو ما أفقد هذه القطاعات القدرة على الصمود والمنافسة وخفض أهميتها النسبية فى النواتج المحلية الإجمالية. وحيث ارتكز توزيع الإنفاق الحكومى والاستثمارات القطاعية فى ظل هذه السياسات النيوليبرالية فى المقام الأول على قيمة ما تضيفه القطاعات المختلفة للناتج المحلى الإجمالى، فقد تراجعت مخصصات القطاع الزراعى فى الإنفاق الحكومى فى مصر، لتهجره تباعا الاستثمارات المحلية والأجنبية؛ وهو ما تسبب ــ من ناحية ــ فى تحول مصر إلى مستوردٍ صافٍ للغذاء، وفاقم من مشكلات الفقر والأمن الغذائى، وأضعف ــ من ناحية أخرى ــ قدرة قطاعاتنا الزراعية على تغذية ودفع عجلة التصنيع المحلى، فكانت المحصلة النهائية تراجع الإنتاج الزراعى وفشل جهود التصنيع. وعلى الرغم من ذلك، فلا يزال القطاع الزراعى يشكل النشاط الرئيس لسكان الريف المصرى الذين يمثلون 57% من جملة السكان، فضلا عن كون قوة العمل الزراعية تمثل تقريبا ثلث القوة العاملة فى مصر. علاوة على ذلك، فإن قطاع الصناعات الغذائية الزراعية يساهم بنحو 5% من الناتج المحلى الإجمالى، وقد حافظ على نمو بلغ متوسط نسبته نحو 13.5% خلال الفترة 2000 ــ 2014. كذلك، فإن هذا القطاع يمثل ثالث قطاعات الإنتاج الصناعى من حيث مؤشر القيمة المضافة، ويساهم بنحو 25% فى قوة العمل بالصناعة، كما أن الصادرات الغذائية المصنعة تمثل نحو 12% من صادراتنا غير البترولية. وفى ضوء هذا الدور الحيوى للقطاع الزراعى والأهمية الاقتصادية للصناعات الغذائية فى الاقتصاد المصرى، فإن خلق آليات لتعظيم الاستفادة من إمكانات القطاع الزراعى والصناعات القائمة عليه وإدماجهما فى منظومة التصنيع المصرية يعد مكونا لا غنى عنه فى الاستراتيجيات الرامية للتصنيع المستدام فى مصر.
***
ثالثا: تشير نتائج العديد من الدراسات وتقديرات منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة إلى ارتفاع فاقد الإنتاج الزراعى فى مصر من حيث الكم والكيف والقيمة خلال سائر حلقات سلسلة القيمة الزراعية بداية بعمليات الإنتاج، مرورا بالحصاد وعمليات ما بعد الحصاد، وانتهاء بعمليات التسويق والاستهلاك. فوفق بعض التقديرات، فإن قيمة الفاقد الزراعى فى مصر تبلغ فى المتوسط نحو 10 مليارات جنيه سنويا، حيث تصل نسبة الفاقد فى بعض الحاصلات الزراعية إلى نحو 40%. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الفواقد تمثل ما يزيد عن مليار متر مكعب من المياه سنويا. وتبين هذه التقديرات الخسارة الاقتصادية الهائلة والإهدار الصريح لإنتاجنا الغذائى ومواردنا المائية، لا سيما ونحن نعانى من فجوة غذائية تتزايد تحت وطأة النمو السكانى وقيود الموارد المائية والأرضية المتزايدة، إلى جانب اعتمادنا على الاستيراد من الأسواق الدولية فى تلبية نصف احتياجاتنا الغذائية. وفى ظل سيناريوهات التغيرات المناخية والبيئية والتى من المتوقع أن تتزايد حدتها وآثارها السلبية على الإنتاج الزراعى والإنتاجية خلال العقود المقبلة، يصبح التصنيع الزراعى ضرورة ملحة، أكثر من أى وقت مضى، للحد من الفاقد الغذائى وهدر الموارد المائية، بل وخيارا حتميا تفرضه مقتضيات الأمن الغذائى الذى يمثل ركيزة الاستقرار السياسى فى مصر.
رابعا: إن التغيرات الهيكلية التى شهدها السوق العالمى للمنتجات الزراعية والغذائية خلال العقود الأخيرة، متمثلة فى اتساع حجم الطبقة المتوسطة وارتفاع دخولها الحقيقية فى الكثير من الدول النامية والاقتصادات الناشئة وزيادة إنفاق هذه الطبقات على الغذاء، إلى جانب التطورات الديموجرافية وارتفاع نسب سكان المدن فى دول العالم وتغيرات أذواق المستهلكين وأنماط استهلاك الغذاء؛ قد ساهمت مجتمعة فى إحداث قفزة نوعية فى الطلب العالمى على المنتجات الغذائية المصنعة، والتى أضحت تشكل أكثر من 70% من جملة مبيعات الأغذية والمشروبات العالمية. وبالنسبة لدولة كمصر تتمتع بمزايا نسبية عديدة فى إنتاج الكثير من الحاصلات الزراعية، بالإضافة إلى تمتعها بشراكات تجارية وقرب جغرافى من الأسواق المستوردة للمنتجات الغذائية المصنعة، كالاتحاد الأوروبى؛ فإن ارتفاع الطلب العالمى على المنتجات الغذائية المصنعة ــ والتى يستهلك أكثر من ثلثيها فى الدول المتقدمة عالية الدخول ــ يفتح فرصا تصديرية أمام منتجاتنا الزراعية المصنعة فى هذه الأسواق، وتجعل من التصنيع الزراعى آلية ممكنة ومحورا يمكن أن ترتكز عليه استراتيجيات التصنيع والتنمية الزراعية المستدامة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
***
وأخيرا، فإن ما تم استعراضه فى هذا المقال بشأن الدور التنموى للقطاع الزراعى فى الأمن الغذائى وتخفيف حدة الفقر وتوفير فرص العمل وتوليد الدخول، بالإضافة إلى الأهمية المحورية للصناعات الزراعية والغذائية فى عمليات التحول البنيوى للدول النامية؛ يؤكد على أن هناك حاجة ملحة لأن تتسع رؤية صانعى القرار ومخططى استراتيجيات الصناعة فى مصر لتتخطى المفهوم التقليدى للتصنيع ــ الذى ينظر للتصنيع من زاوية الصناعات الثقيلة ومثيلاتها فحسب ــ لتأخذ فى الاعتبار الفرص الممكنة للصناعات القائمة على مخرجات القطاعات الأخرى من خلال ودراسة وتحليل العلاقات التكاملية بين الصناعة والقطاعات الاقتصادية الأخرى، وعلى رأسها القطاع الزراعى. وفى هذا الصدد، فإن إدماج الزراعة فى استراتيجيات التصنيع فى مصر ينبغى أن يتم فى إطار استراتيجية كبرى متكاملة توائم بين سياسات الإنتاج الزراعى وسياسات التصنيع والتصدير، وتتضمن خريطة استثمارية لإمكانات التصنيع الزراعى الظاهرة والكامنة، وآلياتٍ محددة تزيل المعوقات التى تواجه الإنتاج والتصنيع الزراعى لتهيئة بيئةٍ مواتيةٍ لتعبئة واستغلال إمكانات هذا القطاع على نحو فعال يفتح المجال لمزيد من الاستثمارات فى النشاط الزراعى والصناعات القائمة عليه ويساهم فى تحقيق أهداف التصنيع المستدام.