إلى الخلف در - داليا شمس - بوابة الشروق
السبت 7 سبتمبر 2024 2:53 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إلى الخلف در

نشر فى : السبت 20 يوليه 2024 - 5:50 م | آخر تحديث : الأحد 21 يوليه 2024 - 2:19 م

اختيار العنوان جاء لنكون على بينة من البداية، المسرحية «مش روميو وجولييت»، فهى ليست اقتباسًا من العمل الشكسبيرى الشهير، بل نصًا كُتب خصيصًا لتقديمه على خشبة المسرح القومى عن فكرة محمد السورى والمخرج عصام السيد، وقام بالصياغة الشعرية أمين حداد. نجح هذا الفريق المتميز فى أن يهدينا، بعد طول انتظار، مسرحية غنائية استعراضية بالمعنى الحقيقى، فالموسيقى ليست مكونًا إضافيًا أو ثانويًا، لكن يعتمد المسرح هنا فى بنيته الدرامية على الغناء الذى يساعد فى تدفق الأحداث وتطورها.
تدور المسرحية فى مدرسة «الوحدة» وتبدأ بشجار عنيف بين الطلاب، احتار أمين حداد فى كيفية تقديمه حتى استقر مع المؤلف الموسيقى أحمد شعتوت على أن يكون «خناقة راب» تحمل روحًا شابة وثابة. سبب الخلاف كان اعتراض بعض العناصر الأكثر تشددًا على وجود قصة حب بين «الأستاذ يوسف» المدرس المسيحى (على الحجار) وزميلته المسلمة «ميس زهرة» (رانيا فريد شوقى). ويتضح بعد ذلك من خلال الحوارات الموقعة شعريًا أن ما يربطهما هى علاقة صداقة قديمة بين جار وجارته، شبا معًا فى حى شبرا الذى كان يعد نموذجًا لتداخل النسيج الاجتماعى بين المسيحيين والمسلمين. لكن بالطبع تم اختلاق الحكايات والشائعات حولهما بسبب حالة التربص العامة و«ملايين العينين الموجودين على الناحيتين»، كما يأتى فى غناء المجاميع.
يقترح مدير المدرسة (عزت زين) أن يشارك الطلاب فى مسرحية «روميو وجولييت» لكى يجمعهم عمل ممتع قادر على إذابة الخلافات والفروقات، مراهنًا على فكرة العلاج بالدراما ودور الفن فى مواجهة التشدد. تحدث العديد من المفارقات الدرامية التى لا تخلو من الخفة والكوميديا غير المفتعلة، ويتم التأكيد على رسالة المسرحية عدة مرات، خاصة على لسان أحد الطلاب (ميدو عادل) حين يردد: «بص للعالم بقلبك، تلقى كل الدنيا جنبك، فيها حب.. فيها حب».
• • •
الحبكة الدرامية بسيطة للغاية، كما هى العادة بالنسبة للمسرح الغنائى الاستعراضى، والكلام مباشر ولا يحتمل أى لبس بما أننا بصدد موضوع حساس وشائك، فالغرض منه أن يصل بوضوح لكل الناس فى وقت تتعرض المنطقة العربية بأسرها لخطر التقسيم على أساس طائفى وعرقى ودينى، إلى ما غير ذلك.
فكرة تناول مثل هذه الموضوعات فى شكل غنائى استعراضى كانت دومًا محببة إلى الجمهور المصرى، بل استدعت تاريخًا فنيًا ارتبط بمنطقة العتبة والأزبكية الموجود فيها المسرح القومى، إذ اقترنت فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين بازدهار المسرح الغنائى الذى كان ضمن أسلحة مقاومة المحتل وعكس الكثير من أزمات المجتمع السياسية والاجتماعية عبر مسرحيات رواد هذا النوع، وعلى رأسهم أبوخليل القبانى وسلامة حجازى وسيد درويش. شهدت مسارح ذلك العصر أعمالًا تتداخل فيها عناصر الغناء والاستعراض مع العناصر الدرامية، ولا يمكن الفصل بينها أو الاستغناء عنها، وهو ما يتوافر فى مسرحية «مش روميو وجولييت» لعصام السيد، فالحوار مكتوب فى الأصل ومعد للغناء الذى يتنوع بين فردى وجماعى، سواء كان ملحنًا أو موقعًا. وهى المسئولية التى أخذها على عاتقه الشاعر أمين حداد بعد فترة طويلة من التردد استمرت منذ عرض مشروع المسرحية عليه لأول مرة عام 2014، ربما خوفًا من دخول التجربة. وفى النهاية استطاع المخرج عصام السيد إقناعه، ونجح هذا الأخير فى تقديم مسرح غنائى متحرك بفضل التعاون مع مصممة الرقصات شيرين حجازى التى دربت مجموعة بارعة من الهواة، فجاءت الحركة خفيفة ومنضبطة. كما سمحت السينوغرافيا المُحكَمة بترك مساحة كافية للاستعراض، وهناك أيضًا سرعة فى تغيير المناظر والديكور.
أتقن المخرج إدارة المجاميع. استخدم «البلاى باك» ليضمن جودة الأداء ولا يرهق صوت المؤدين. لجأ إلى التقنية السينمائية لكى يشرح لنا تاريخ العلاقات بين الأبطال أو يعرض صور ما كانت عليه مصر فى السابق من خلال لقطات ومشاهد قديمة تظهر على الشاشة فى خلفية المسرح، فنفهم من وراء ستار خفيف شفاف معنى الكلمات التى كتبها أمين حداد: «كأن الزمان نفانا لورا»، ودون قصد ينتابنا حنين لهذا الوقت ويصفق الجمهور حين تلمس الصور والكلمات وترًا حساسًا لديه.
• • •
ردود فعل الناس فى القاعة جاءت متشابهة بدرجة كبيرة مع الإحساس الذى ساد خلال عرض فيلم «رسائل الشيخ دراز» لماجى مرجان فى سينما زاوية أخيرًا، والذى كتب عنه الكثيرون بحماسة شديدة وامتدت أيام عرضه نظرًا للإقبال على مشاهدته. الفيلم التسجيلى الذى يتتبع حياة رجل الدين والعلامة الأزهرى، محمد عبدالله دراز (1894-1958)، من خلال الصور وأوراقه الخاصة ولقاءات مع أفراد عائلته، يجعلنا أيضًا نغرق فى نوستالجيا عصر ولى، نحِنُ إلى تلك الأيام ولهذه الروح السمحة التى يمثلها الشيخ الراحل الذى جمع بين العقل والنقل وحافظ على استقلاليته أمام كل إغراءات السلطة ولم ينجرف إلى لعبة السياسة.
الشعور بعدم الرضا عن الحاضر والخوف مما هو آت يجعلنا نلوذ بالنوستالجيا. تتملكنا الحسرة دون وعى، ونجد أنفسنا نصفق أو نعلق فى القاعة ضمن آخرين. ألاحظ الإيماءات على الوجوه فى الظلام والأصوات التى ترتفع وتخفت بين الحين والحين. جميعنا نتشارك الإحساس ذاته، نبحث عن الزمن الضائع، عن الراحة التى يخلفها الحنين فى وقت الأزمات والقلق والعزلة والشك، فالحنين مثلما تصفه الدراسات الحديثة يعتبر بمثابة «عازل واقٍ يحمينا من التهديدات الوجودية».
نضحك مع أبناء وأحفاد الشيخ دراز ونجتر معهم الذكريات. وتمتلىء عيوننا بالدموع فى نهاية مسرحية «مش روميو وجولييت» حين تشب النيران التى أضرمها أحد الطلاب المتشددين، نخشى أن تلتهم مدرسة «الوحدة» وتقضى على الأستاذ يوسف وصوته الذى كان يجلجل قبل قليل فى المسرح. نفرح حين ينجو من الحريق، رغم أن القصة بسيطة وتشبه حواديت الأطفال. لكننا على الأرجح نحلم بأن ننجو مثله وبألا يمسنا أذى.

التعليقات