أسس الملا عمر طالبان وأصبح رئيسا لإمارة أفغانستان الإسلامية 1996 وعلى غير عادة الدول لم تستمر فى الحكم سوى خمس سنوات، انتهت بكارثة مروعة باحتلال أفغانستان ومقتل وجرح وإعاقة قرابة مليون أفغانى، ليستمر هذا الاحتلال قرابة عشرين عاما وينتهى بنفس المشهد الذى بدأت به دولة طالبان الأولى.
وكأن الزمان يعيد نفسه فقد سيطرت طالبان على معظم الأراضى الأفغانية ودخلت كابول بسهولة استغربها الجميع، وقد تكرر هذا عام 1996
أكثر من عشرين عاما تفصل بين الحدثين.
• عادت طالبان للحكم فهل تكرر مسيرتها الأولى أم أنها تعلمت من الجحر الكبير الذى وقعت فيه أيام حكمها الأول، وهل ستكرر المآسى التى كانت سببا فى إنهاء حكمها الأول؟.
عشرون عاما فاصلة هل ستكفى لتعليمها الطريقة الأمثل لقيادة الدولة، وأن قيادة الدول تختلف عن قيادة الجماعات، وألا تكرر تجربة الملا عمر فى الحكم، حيث إنه كان مجرد فقيه مبتدئ قاد الدولة بعقلية أمير الجماعة، وليس رئيس دولة، والفقيه لا يصلح كرئيس دولة، فالفرق شاسع بينهما.
• لقد أخطأت طالبان فى تجربتها الأولى أخطاءً كارثية كلفتها وكلفت أفغانستان الكثير وأخطرها على الإطلاق استضافة تنظيم مسلح «القاعدة» يحارب ويعادى العالم كله تقريبا، انطلاقا من أرضها ودون علم أو إذن أو موافقة الملا عمر وحكومته، وكلما أعطى عهدا لحكومة أفغانستان نقضه من جديد، حتى أصبح دولة داخل الدولة حتى قام بكارثة 11 سبتمبر ،التى دفع ثمنها الشعب الأفغانى نفسه فاحتلت بلاده وشرد شعبه وقتل وجرح وأعيق مئات الآلاف من أبنائه المسالمين، وحينما جاء الاحتلال الأمريكى تركت القاعدة أفغانستان لتبحث عن مواقع آمنة فى باكستان وإيران وغيرهما تاركة الشعب الأفغانى المسكين لمصيره المظلم.
لقد كانت القاعدة وزعماؤها سببا رئيسا فى مأساة أفغانستان وطالبان فأضاعوا كل شىء، وأخطأت طالبان وقتها بمحاربة معظم فصائل الشعب الأفغانى فحاربت الطاجيك وساعدت تنظيم الجهاد المصرى على قتل قائدهم أحمد شاه مسعود وهو الوحيد الذى كان مؤهلا لقيادة دولة.
•وحاربت إيران بقسوة حينما قتلت 9 من دبلوماسيها مخالفة للأعراف الدولية وحاربت الأوزبك، وكل هؤلاء كانوا السند الرئيسى لإسقاطها ومساعدة الغرب فى احتلال أفغانستان.
وأخطأت حينما لم تقدم أفغانستان للعالم كله بطريقة صحيحة وتندمج مع المجتمع العالمى فلم يعترف بها سوى ثلاث دول وقتها وهي باكستان، السعودية، الإمارات» ولم تتركهم ينصرونها بل خربت كل علاقة معهم حتى أصبحوا أعداءها فأصبحت باكستان «مؤسسة وراعية طالبان» هى العدو الأكبر لها والمصيدة الكبرى لها وللقاعدة.وخاصة حينما دشن بوش الابن شعار «من ليس معنا فهو عدونا». وأخطأت طالبان بمنعها لكل أجهزة التلفزيون والقنوات الفضائية فحرمت نفسها أولا من أهم وسيلة للتواصل بينها وبين شعبها، حتى إن الملا عمر لم يكن يعرفه معظم الأفغان، ولم يخرج عليهم مرة ليخاطبهم أو يشرح لهم أفكاره وبرامجه ويستعين بهذا الجهاز السحرى فى تنمية وتطوير وتعليم شعبه الذى هو أقرب للبداوة.
• وواكب ذلك استعانته بكل ما هو متشدد فى الفقه ولا يناسب العصر الحديث ولم يجمع بين فقه الواجب وفقه الواقع، تاركا فقه الحضارة والتحضر ومائلا لفقه البداوة الذى لا يصلح لإقامة دولة، وركز على فقه سد الذرائع الذى لا يبنى الدول بعكس «فقه فتح الذرائع» الذى يصلح الدول.
• ووضح ذلك فى تعميم النقاب الذى لم تفرضه الشريعة فالحجاب غير النقاب فضيق ما وسعه الله على الناس، كل ذلك جعل حياة الناس فى حرج، فضلا عن منع المرأة من التعليم، وتشجيعه بعد الغزو الأمريكى لقتل العلماء الكبار مثل د/ برهان الدين ربانى وهو أول أفغانى يحصل على دكتوراة الأزهر فى الفقه وأصوله، فمهما اختلفت معه سياسيا لا تفجره بهذه الطريقة الوقحة.
• طالبان كانت لها حسنات كثيرة فى الزهد والتقوى وهى كانت تصلح كجماعة حقا، ولكنها وقتها لم تكن مؤهلة لقيادة دولة فقد كانوا مجرد طلبة شريعة، كان من حسناتهم منع زراعة المخدرات ومنع السلب والنهب، ولكن قيادة الدول لا تكون بمجرد العفة والطهارة، فهى مهنة مثل الجراح إذا كان تقيا عفا ولكنه لا يجيد الجراحة، فكل مرضاه سيموتون.
والآن وبعد أكثر من عشرين عاما أعطى الله طالبان فرصة جديدة لحكم أفغانستان فهل ستكرر أخطاءها أم لا، هل ستقود الدولة بعقل الجماعة، هل ستحارب كل الدول غير المسلمة أم تناصبها العداء، أو تتدخل فى شئونها، هل ستعود لاستضافة الجماعات المتطرفة أو تأوى بعض الإرهابيين الذين يقومون باغتيالات أو تفجيرات فى بلادهم وخاصة من العرب الذين ضيعوها من قبل؟.
عشرون عاما كافية للنضج الفكرى والسياسى والدولى، وخاصة أنها كلفت طالبان الكثير والكثير من الدماء والجراحات والآلام والثكالى، كلنا نأمل أن تكون طالبان وأفغانستان وشبعها أفضل وأحسن وأرقى وأكثر انفتاحا داخليا وخارجيا.
• لا أظن أن طالبان هذه الأيام مثل طالبان الملا عمر، ولا أعتقد أنهم سيكررون أخطاءهم الأولى وخاصة لمن ينظر إلى طريقة وصولهم للحكم بطريقة سلمية وترك خصومهم يهربون وعدم الاعتداء على أى أجنبى أو امرأة.
إن الذى يبشر بالخير الآن هو تحرر طالبان من ربقة القاعدة وربقة التنظيمات المتطرفة وانفتاحها على الفصائل الأفغانية الأخرى واستخدامها لغة الحوار وترك لغة السلاح وتفاهمها مع القوى الدولية الأخرى بجوارها مثل الصين وروسيا وإيران وأمريكا,وأنها لن تدخل فى حروب مع أية أطراف دولية نصرة للمستضعفين من شعوبها، لأن ذلك جرها لحروب غير منطقية أهلكتها من قبل.
• أطيب تمنياتى للشعب الأفغانى.