المدن كالناس - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 9:01 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المدن كالناس

نشر فى : الأربعاء 20 سبتمبر 2017 - 9:25 م | آخر تحديث : الأربعاء 20 سبتمبر 2017 - 9:25 م
حين يسألنى الأصدقاء عن حلب، مدينة والدى، أجيب أننى لم أعش فيها قط، رغم أننى كثيرا ما كنت أصاحب والدى فى رحلات سريعة إليها، لزيارة من بقى فيها من الأقارب فى المناسبات السعيدة والحزينة. لذا فقد ارتبطت مدينة أبى وجدى، فى ذهنى، إما بحفلات الزفاف أو بمجالس العزاء أو بأيام العيد، رغم أننى شبه متأكدة أننا زرنا المدينة عدة مرات دون أن نحتفل أو نعزى.
***
أفكر فى المناسبات هذا الأسبوع، بعد أن باركت لأصدقاء تزوجوا، وأرسلت التعازى لعائلة صديق توفى فجأة، لأننى أصبحت أنظر إلى المناسبات وكأنها محطات فى الحياة. هى كالإشارات التى حفرها روبنسون كروزو على الشجرة فى جزيرته البعيدة، هى مفاصل نعلق عليها صفحات من قصصنا اليومية، فتصبح كصفحات كتاب نشرناها ليجف حبرها فى الشمس. يوم توفيت جدتى، كنت فى زيارة لدمشق، إذ كنت وقتها قد انتقلت للعيش فى القاهرة. حين تزوجت صديقتى القريبة كنت على وشك الانتقال للعمل فى بلد آسيوى صغير، فذهبت إلى عرسها فى الكنيسة لكننى لم أنضم إلى طاولة العشاء بعد ذلك بسبب السفر فزعلت منى. أما عندما تخرج أخى من الجامعة، فقد كنت قد وضعت طفلى الثانى منذ شهور قليلة، إلا أننى تركته فى عناية صديقة حتى أستطيع أن أحضر حفل التخرج.
***
وهكذا تنسج الحياة خيوطها لتربط الأحداث بأماكن، فيصبح الارتباط محكما فى الذهن بشكل يصعب فكه بعد ذلك، إذ تأخذ مدينة ما ألوانا زاهية إن كانت تذكرنى بمناسبات سعيدة، أو تلبس قماشة داكنة إن فقدت فيها شخصا أحبه، سواء لأن الموت غيبه أو لأننى تشاجرت مع ذلك الشخص فى تلك المدينة بالذات. يقال إن للأماكن دوما ذاكرة، لذا فأنا أجد نفسى غضبانة من مكان أو متصالحة معه تماما كما أفعل مع الأشخاص. أجد أن الوهم يكبر مع البعد، وأن البعد جفاء كما يحدث مع الأشخاص أيضا، فكلما غابت مدينة أكون قد تشاجرت معها عن نظرى، غابت أيضا عن قلبى. وكلما التقيت مدينة أحبها، كلما زاد ارتباطى بها.
***
عشت عدة سنوات فى مدينة شاهقة الأبنية وسريعة الإيقاع، سنوات مليئة بالأحداث، لكننى أظن اليوم أنها كانت سنوات نضجت فيها واستقريت فيها على مواقف أظن أنها سوف تصاحبنى دوما. زرت المدينة أخيرا، ومشيت فى شوارع لطالما مشيت فيها مع زوجى أو مع أولادى، فظهروا فجأة أمامى دون حتى أن أستدعيهم. هنا وقع ابنى وهو يركب دراجة فجلسنا على طرف الطريق حتى يهدأ. هناك اشترى والدى حين زارنى مرة طعاما، وحمله إلى بيتى فرحا بما وصفه بأنه أقرب ما يكون إلى النكهة الحلبية، إذ كان مطعما تركيا ومن المعروف أن لتركيا بصمات واضحة على المائدة الحلبية. لكن أكثر شعور اجتاحنى وأنا أزور المدينة هو أننى سوف أعود إليها فى خريف عمرى، حتى أننى رأيت نفسى أتمشى فى جادة مكتظة فى يوم مشمس، أمسك فيه بيد زوجى كما فعلنا فى صبانا. رأيت نفسى بشعر قصير تلعب فيه خيوط بيضاء لعبة استغماية مع الخيوط السوداء. رأيت نفسى أتوقف لأواجه زوجى أثناء حديث محتدم أردت أن أؤكد فيه على موقفى، فتوقفت عن المشى عند وصولى إلى طرف الرصيف لحظة مرور موكب قد يكون لرئيس دولة جاء لحضور افتتاح الجمعية العامة للأمم المتحدة. المدينة هى نيو يورك، والمرحلة هى بعد عشرين سنة من الآن، إذ لا يظهر أى من أطفالى الثلاثة فى المشهد، وكأننى على يقين أن كلا منهم سوف يكون قد انشغل بحياته.
*** 
أنا أصلا كثيرا ما أتساءل عما سيفعله المرء بعد رحيل الأولاد من البيت، أتساءل عن إيقاع الحياة بعد أن يتوقف ارتباط الساعات بالمدرسة والأيام بالإجازات، وبعد أن يتوقف ارتباط السنوات بزيارات الطبيب وارتفاع درجة الحرارة، وببكائى حين أرى ابنى على المسرح فى حفلة نهاية السنة الدراسية. يبدو لى أن حياة ما، بعد زحمة الأطفال، تحتاج إلى تحضير شبيه بمن يحضر مشروع هجرة إلى كوكب آخر، تختلف فيه ليس فقط اللغة بل أيضا وحدات قياس الوقت. يبدو لى أن أكبر عملية إعادة تدوير بالنسبة للعائلة تكون عند إعادة برمجة الحياة بعيدا عن أوقات دراسة الأطفال وبعيدا عن أصواتهم.
***
أنظر إلى المدينة الكبيرة التى أعيش فيها مع أسرتى، وأتساءل عما سوف يرتبط بذهن أولادى من حياتنا هنا، ما الذى سوف يقولونه وهم يتذكرون طفولتهم فى القاهرة؟ لن يهمهم حينها الظروف السياسية التى تمر بها البلد، فبالنسبة لهم، كما كان بالنسبة لى فى طفولتى، ما يهم هو ذكريات المطبخ ورائحة الفانيليا وكعك العيد. ما يهم هو شجارات ما قبل النوم، واعتراضهم على قوانينى الصارمة فيما يتعلق بترتيب غرفتهم. أمسك نفسى أحيانا عن الضحك وأنا أسمع نبرتى الآمرة لهم، إذ إننى أعرف أنهم سوف يقلدوننى فى المستقبل وسوف نضحك جميعا علىّ.
ها أنا أعيش حياتين بل ثلاثا معا، أصنع اليوم ما آمل أن يتحول إلى ذكريات دافئة فى المستقبل، وأسترجع حلقات من حياة ماضية، فأفهم بعضا مما كان يبدو لى غير مفهوم حين كنت طفلة. كل ذلك فى شوارع مدن مختلفة، أحببت بعضها وكرهت بعضها فنسيت حتى أسماءها. هكذا إذا فالمدن كالناس، تترك فينا ندبات أو تطبع على خدنا قبلة تبقى معنا حتى لو لم نرها مرة أخرى.

 

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات