مع اقتراب يوم انتخابات التجديد للكونجرس الأمريكى فى أوائل نوفمبر القادم، وكما تتصارع الحملات السياسية داخل الولايات المتحدة، فإن التوقعات، والأمنيات، وكذلك الاستطلاعات والتحليلات تتنازع هى الأخرى حول النتائج المحتملة لتلك الانتخابات، وأثر هذه النتائج الكبيرة – كما هو متوقع – على الداخل الأمريكى، وعلى العالم كله، بما فيه منطقتنا الشرق أوسطية.
وسط هذه التجاذبات، فإننا – كغيرنا من محبى السلام والتعاون والتعددية السياسية والثقافية – نتمنى هزيمة ساحقة للاتجاه الشعبوى اليمينى ذى النزعة العدوانية، والنكهة العنصرية الذى يقوده الرئيس الأمريكى الحالى دونالد ترامب، ويروج لأسسه النظرية ستيف بانون، وفريقه، لكن الأمانى شىء، والتوقعات شىء آخر، وربما تكون النتائج النهائية شىء ثالث.
لذلك لا يكون السؤال الأهم – من وجهة نظرنا – عن نتائج انتخابات نوفمبر النيابية الأمريكية فى حد ذاتها، وآثارها المحتملة، ولكن هذا السؤال هو: هل القوى والمؤسسات التقدمية، المؤمنة بالسلام العالمى والاخوة الإنسانية، والتعددية، وديمقراطية التشريع واستقلال القضاء، ومبدأ الرقابة والتوازن بين القوى والسلطات بما يمنع تركز القوة فى مكان أو شخص واحد، أو فى جماعة أو طبقة محددة فى الغرب الأورو – أمريكى.. هل هذه القوى عرضة لهزيمة تاريخية نهائية، تدشن حقبة من القوميات الفاشية الجديدة أو المتجددة إلى أجل غير منظور؟!
الإجابة الفورية والمباشرة هى لا قاطعة. حقا قد تخسر هذه القوى بعض الجولات، لأسباب ظرفية مثل سخط الفقراء فى الدول المتقدمة على تحيز العولمة الاقتصادية ضدهم، وتفاعل هذا السخط مع النقمة «العنصرية» على المهاجرين الملونين، بما يؤدى إلى التصويت لأحزاب يمينية شعبوية، إلا أن مجمل التاريخ الأورو – أمريكى منذ عصر التنوير فى القرن الثامن عشر يسير فى اتجاه التقدم، كمصطلح جامع لكل ما ذكرناه توا من مبادئ ومثل، مع البطء أحيانا، أو النكسات فى أحيان أخرى، أو حتى الردة مؤقتا فى أحيان ثالثة. ولإثبات صحة هذه الاجابة، فهل يعتقد أكثر المتشائمين أنه يمكن أن تعود المجتمعات الأوروبية، والمجتمع الأمريكى إلى قبول مبدأ الاعتقال دون تهمة أو دون محاكمة بأوامر من أصحاب السلطة التنفيذية، أو من أصحاب السلطوية، كسياسة منهجية؟ وهل يتصور أحد أن القضاء هناك يمكن أن يأتمر بأوامر الحكام؟ أو أن تزور الانتخابات البرلمانية وفقا لإرادة الرئيس أو حزبه؟! أو أن تصدر التشريعات من البرلمانات بضغطة زر أو اتصال تليفونى من سكرتارية الرؤساء؟ أو هل تستطيع الحكومات الشعبوية الجديدة االعصف بحرية التعبير، والاحتجاج، وتعبئة وسائل الاعلام والصحف لمساندتها؟! أم هل تستطيع وأد حريات واستقلال النقابات المهنية والعمالية؟ وأخيرا وليس آخرا – كما يقولون – هل يصدق أحد أن بوسع زعيم شعبوى أن يجعل الدستور حبرا على ورق، ويعدله أو يوقف العمل به، كما يشاء، ووقتما يشاء؟
حالة المجر ليست مقياسا لأن دول أوروبا الشرقية كلها ليست من الدول الراسخة فى تقاليد الديمقراطية، وإرث التنوير، ومع ذلك فقد تصدى البرلمان الأوروبى لهذه الحالة.
بعبارات أخرى فقد كان كل هذا االذى تساءلنا عنه بصيغة الاستنكار، وأفدح منه، مثل المذابح الجماعية والمحارق هو ما يحدث فى ألمانيا االنازية، وإيطاليا الفاشية، واسبانيا فرانكو، وبرتغال سالازار، ويابان توجو، فضلا عن ديكتاتوريات أمريكا اللاتينية العصابية، (بضم العين، وبكسرها).
إذا كانت إجابة كل التساؤلات السابقة بالنفى، وحتما ستكون بالنفى، فهذه هى بالضبط مكتسبات «الديمقراطية والتقدم» التى أحرزتها، ورسختها تلك المجتمعات، عبر قرون، أريقت فيها أنهار من الدماء، ودمرت خلالها أعداد وكميات هائلة من المرافق والموارد، وقوضت من أجلها أسر وجماعات وطبقات ومجتمعات.
تزداد هذه الحيثيات النافية لأى احتمال لتعرض قوى التقدم والسلام والديمقراطية والتعدد لهزيمة تاريخية حتى أجل غير منظور، إذا عقدنا مقارنة بين ظروف نشأة ظاهرة اليمين الشعبوى الحالية، وبين ظروف نشأة النازية والفاشية وملحقاتهما بعد الحرب العالمية الأولى، إذ إن الصعوبات الاقتصادية الناشئة عن العولمة والظلم الاجتماعى فى االدول الصناعية حاليا لا تشبه من قريب أو بعيد أحوال البؤس والمجاعات والتشرد التى جلبتها تلك الحرب على ألمانيا وإيطاليا، ودول أخرى، فكل هذه الدول لديها شبكات رسمية أو أهلية فعالة للحماية الاجتماعية، حتى فى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.
فى الوقت نفسه فقد زال التحدى الشيوعى الثورى الأممى الذى كان سببا رئيسيا فى احتدام العواطف أو الغرائز القومية، خاصة فى إيطاليا وألمانيا، اللتين كانتا جذوة الروح القومية ما تزال مشتعلة فيهما، بسبب حداثة عهدهما بالوحدة القومية، والحروب الطاحنة من أجلها، بعد طول تفكك، وخضوع لهيمنة أجنبية، ومن ثم فقد تواطأت الدولة العميقة فى البلدين، مع الرأسمالية للاحتماء بالنازية أو الفاشية من ثورة العمال فى الداخل، ومن خطر الشيوعية الأممية بقيادة الاتحاد السوفيتى من الخارج.
فإذا جادل البعض بأن التحديات الصينية، أو تهديدات الإرهاب «الاسلامى»، تناظر خطر الأممية الشيوعية، فالرد على مثل هذه المبالغة، هو أن الصين منافس اقتصادى بالدرجة الأولى، وليست نقيضا وجوديا لأية قوى عالمية أخرى، ولن يكون من مصلحتها الدخول فى حرب باردة أو ساخنة مع «الغرب»، لأن التحدى الأبرز أمامها هو تحقيق النمو المتوازن لكل أقاليمها، وكل سكانها، الذين لا يزال عدد هائل منهم محروم من ثمار التنمية، وأما عن تهديدات الارهاب «الاسلامى»، فنعيد ما سبق لنا ذكره هنا منقولا عن زيبجينيو بريزنيسكى مستشار الأمن القومى فى إدارة الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر، وأحد أبرز منظرى العلاقات الدولية بعد سلفه فى المنصب هنرى كيسنجر حين قال: ماذا يساوى بضع مئات من المسلمين المهتاجين أمام زوال خطر الامبراطورية السوفيتية الشيوعية؟!
فإذا أضفنا إلى ذلك كله عبرة التاريخ الأمريكى نفسه منذ الحرب الأهلية للقضاء على العبودية، مرورا بمبادئ ويلسون فى أعقاب الحرب العالمية الأولى، وتطبيق مبدأ «الدولة التدخلية فى الاقتصاد» من خلال صفقة فرانكلين روزفلت الجديدة لمكافحة الكساد الكبير، ثم ميثاق الاطلنطى فى أثناء الحرب العالمية الثانية، وقوانين الحقوق المدنية لإلغاء الفصل العنصرى، وتعزيز مبادئ حقوق الإنسان فى السياسة الدولية، والوفاق الدولى الذى مهد لنهاية الحرب الباردة، وعولمة كلينتون، وظاهرة الرئيس باراك أوباما، بكل ما مثلته من أبعاد تقدمية بالمقاييس الأمريكية، فإن الشاهد هنا أيضا أن تاريخ الولايات المتحدة نفسه يسير نحو «التقدم» كاتجاه عام، مع تباطؤ، أو حتى ردة فى هذه الحقبة أو تلك، ولكن لأسباب ظرفية، كما سبقت الإشارة، وكما يقال فإن الاستثناء لا يلغى القاعدة.
أما آخر ما نراه من أدلة على أن التاريخ لن يعود إلى الخلف (لفترة زمنية طويلة) فهو تلك المقاومة البالغة حد الرفض لظاهرة ترامب داخل أمريكا وخارجها، وهى مقاومة تترى وقائعها وفصولها يوميا، بما يغنى عن الحاجة لسردها.
لذلك فمهما تكن نتائج انتخابات نوفمبر المقبل الأمريكية، فلا داعى لتعظيم الشعور بالاطمئنان عند «الترامبيين» فى كل مكان فى العالم، ولا داعى لتضخيم الشعور بالذعر لدى الآخرين فى كل مكان فى العالم أيضا.