اكتشفت خلال نقاش مع زوجى منذ مدة أننا مختلفان فى تعريفنا لمكان نعتبره «البيت»، أو بمعنى أوسع ربما «الوطن»، ذلك المكان الذى يرتبط فى المخيلة بالدوام وبحب وكره غير مشروطين، مكان يجذبنى بقدر ما يلفظنى، مساحة أعرف وأنا فى داخلها أننى أنتمى إليها حتى لو لم أتوقف عن نقدها والهروب منها ولم تتوقف هى عن مناكفتى ودفعى للرحيل. بالنسبة لى، هناك مكان اسمه «البيت» أعود إليه لتفقد جذورى والاطمئنان على معالم أعرفها وناس لهم مكانة فى قلبى. ورغم أننى فعليا لم أعد إلى «البيت» منذ أكثر من عشر سنوات حتى أننى لا أعرف أصلا إن كان التعريف ما زال ساريا فى حالته، إلا أننى ما زلت أستخدم المصطلح كمفهوم.
***
يجيب زوجى أن أنماط الحياة اختلفت لدى الكثيرين، فصار معظمنا يتبع مكان عمله ويستقر، ولو لفترة محدودة، حيث نجد الرزق، أو عقد العمل. لذا فحين أفصحت صديقة أخيرا عن خوفها من أن يتزوج ابنها فى الغربة فلا يعود، استغربت إذ لم أفكر منذ مدة بإمكانية أن يعود أى من أبنائى لا لسبب سوى أن يعيشوا قربى فى ذلك المكان الذى أسميه «البيت». فأنا لم أفرض، على الأقل بشكل واع، الارتباط بالمكان على أطفالى.
***
فأنا ما زلت أربط نفسى بمكان لكنى لا أربط أولادى به بالضرورة. طبعا أتخيلهم، أى أولادى، فى المكان لكن يبدو لى أنهم يزورونه فقط من مكان إقاماتهم. أنا لا أفرض عليهم أن يعيشوا هناك لكنى أريدهم أن يعتبروا المكان «البيت» لأننى فيه. هذه المرة الأولى التى أفكر فيها بعلاقة أطفالى بالوطن أو بالبيت. هم فى عمر يعتبرون البيت مكان عيشنا، وبما أننا نتنقل باستمرار بسبب العمل فلم يرتبطوا بمكان بعينه كمربط خيل لا مجال للتشكيك بأنه مكانهم.
***
يعرف أطفالى عن أنفسهم بقولهم أنهم سوريون ــ مصريون، ويتحدثون باللهجتين القاهرية والدمشقية، ويشيرون إلى «العيش البلدى» على أنه أفضل خبز فى العالم على الإطلاق، كما يعتبرون الطبخ باللبن الزبادى مسألة طبيعية كأى شامى عاش فى الشام. هم إذا ينتمون بحكم الممارسة واللغة إلى مكانين يعرفونهما كبلادهم. أما المكان الجغرافى فيبدو لى (بكثير من التعجب من ناحيتى) أنهم لا يرتبطون ببقعة محددة فى الأرض يشتاقون لرائحة هواها أو لصوت بائعيها المتجولين أو لأزقتها.
***
ذلك المكان الذى أسميه البيت/الوطن لطالما كتب عنه فى محاولات لا تنتهى لتعريفه. ومع مواسم الهجرة هربا من البطش والحروب والاعتداءات المتكررة على مساحة الفرد الخاصة، تبلور خط من الإنتاج الثقافى والفنى متمحور حول فكرة الانتماء والغربة والحنين والعودة والبحث المستمر والمؤلم عن أوطان بديلة. وواجه الخط الثقافى هذا خطابا شوفينيا خشبيا مرتكزا على فكرة عدم السماح بانتقاد البيت/الوطن وكأنه مكان مقدس! مكشوفة طبعا أسباب المنع هذا، إذ قد يتحول الانتقاد سريعا إلى مساس بالسياسة وبطريقة الحكم وبأولويات الحكام وغيرها من المواضيع التى تعد خطوطا حمراء. لذا فمن الوارد أن يقوم أحدهم بسرعة بالدفاع عن سمعة البيوت/الأوطان مستخدما أسلوبا قديما مهترئا أقرب إلى البروباجندا منه إلى العقلانية، متهما آخرين إما بعدم حب المكان أو خيانته أو عدم فهمهم وإدراكهم لخصوصيته.
***
لم أعد أدخل فى نقاشات حول علاقة انتقاد المكان بحبه، فلا صبر عندى تجاه الشوفينية العمياء وعدم قدرة أحدهم على تحمل أن أمس بمقدساته. لا مكان اليوم، على الأقل فى يومى وفى مساحتى، لمن يدافع دون تفكير عن أنظمة انتقصت من البشر وعينت نفسها وصيا لهم ووكيلا عنهم فى التعبير عن شعورهم. لا مساحة فى عقلى لمن يرى أن من واجب الثقافة والفن والأدب أن تدافع وتفرض موقفا موحدا من الأنظمة والدول. بصراحة لقد فات وقت البروباجندا ومن المعيب بحق العقول أن يستمر بعضهم بإطلاق أحكام من نوع «تسىء إلى الوطن وإلى سمعته» وكأن الوطن شخص وكأن السمعة لبيت أبو فلان فى حارة ــ مع كل الاحترام للحارة ولأبو فلان.
***
أكتب هذا بمناسبة جدل قائم حول فيلم ربح جائزة فى أهم مهرجان أفلام فى العالم، رآه البعض على أنه مسىء لسمعة البلد. لن أخوض فى التفاصيل فهى كلها موجودة على وسائل التواصل الاجتماعى إنما كان من هذه الواقعة مناسبة، بالنسبة لى على الأقل، لإعادة النظر فى موضوع البيت/الوطن ومفهوم الانتماء وما إذا كان هذا المفهوم فى طريقه إلى الزوال بين الأجيال الشابة.
***
أظن أن فكرة الانتماء لمكان بعينه والتغنى بمائه وترابه هى فكرة على وشك الاندثار، على الأقل لأسباب عملية ففى منطقتنا العربية غالبا ما يحاول الشباب والشابات الرحيل إلى أماكن تتوفر فيها فرص للعمل والكرامة والنمو كأشخاص. وفى البلاد المتقدمة حيث اقتصادات قوية، فقد تصالح الناس مع فكرة التنقل بسبب فرص العمل أصلا ولم يعد يتغنى أحد بقهوة أمه ومعمول جدته وحكمة جده فى حل الخلافات من حوله.
***
بالعودة إلى مكان أسميه أنا البيت/الوطن، أنا ما زلت أريد مكانا بعينه أرص فيه الكراكيب وأحكى قصة اقتناء كل كركوبة، أريد مكانا أشرب فيه الشاى بالقرفة على شرفة صغيرة أطل منها على الشارع وأسلم على الجيران أو أتحاشى بعضهم بسبب ثقل ظلهم. لا أعرف إن كان أولادى سيفهمون ارتباطى بالشرفة وبالمكان، ربما سيفقدون المفهوم فى السنوات القادمة فأكون أنا آخر من أشار لذلك المكان على أنه «البيت».
كاتبة سورية