«هذه الثورة إشارة وبشارة، إشارة إلى ماضٍ مازال حاضرا، وبشارة بمستقبل تتطلع إليه الإنسانية كلها»
ديباجة دستور مصر ــ الذى صوت بالموافقة عليه ما يقرب من 20 مليون مصرى.
نترك جزء التطلع و«الإنسانية كلها» ونركز على الإشارة والبشارة.
الكثير كُتب وسيقال عن الاستفتاء على الدستور وأبعاده المختلفة وفى مقدمة ذلك إنه لم يكن تصويتا على الوثيقة الدستورية بقدر ما هو تصويت بالأساس على شخص وزير الدفاع الفريق السيسى وعلى المسار الانتقالى بعد 30 يونيو.
كذلك ينهى الاستفتاء الاساس القانونى لحكم الإخوان ويستبدله بشرعية دستورية اوسع مما حصل عليه الدستور الصادر عنهم فى 2012 (نسبة المشاركة على الاستفتاء الأخير (38.6 %) مقارنة بـ (32.9%) فى دستور 2012). هذه الشرعية تعطى أساسا شعبيا لاستحققات المرحلة القادمة وعلى رأسها الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
<<<
مصر وهى تبحث عن ذاتها فى خضم موجات الثورة والسكون، والتقدم والتقهقر الذى يعترى المسار الانتقالى ترسل إشارات وبشارات. وعل أهل السلطة إذا احسنوا الإنصات وتلقفوا الإشارات ان يجدوا مخرجا يعيد المسار المحتقن إلى الطريق الديمقراطى.
بالقطع جيد أن يتصدر النساء مشهد التصويت على الاستفتاء، فالثورة فى 25 يناير و30 يونيو حررت الكثيرين وأعادت الثقة بالنفس واعطت صوتا لمن ظن خطأ أو أُفهم جبرا أن صوته لا قيمة له. ولكن الاعتقاد أيضا ونحن مقبلون على الاستحقاق الرئاسى ان اصوات النساء (بخلاف الإخوان) مضمونة، خطأ كبير، لأن سيدات وبنات مصر فى بحثهن عن الاستقرار يعلمن أيضا ان استفحال القمع وكثرة الدم لن يجلبا الاستقرار المنشود بل العكس.
كما ان كثيرا منهن قد قاطعن أيضا كجزء من الشباب، الذى كان غيابهم الملحوظ عن مشهد الاستفتاء هو المتصدر لأحاديث النخب لدلالاته وإشاراته.
كثير من هؤلاء الشباب توارى عن المشهد السياسى الحالى أو توجس منه بعد ان اتضح له مرارة الاختيار بين ثنائيات غير مريحة: هل التصويت بـ«نعم» للوقوف ضد الفاشية الدينية هو بالضرورة تصويت على عودة الدولة الأمنية؟ هل الدولة وهى تحارب الإرهاب، والشعب يقف ظهيرا لها، لابد أن تكسر روح ثورة 25 يناير؟
فثورة 25 يناير لها اعداء كثر من نظام مبارك السابق برجال اعماله وإعلامييه ومن داخل الأجهزة التى كُسرت هيبتها يوم 28 يناير. وليس على سبيل الصدفة أن تُوجه فى إطار الصدام الدموى بين الدولة والإخوان ضربات متلاحقة لكثير من رموز ثورة 25 يناير سواء بمحاولة التشهير والاغتيال المعنوى (البرادعى، وائل غنيم، وآخرون) أو بالحبس على ذمة قضايا سياسية بالأساس (علاء عبدالفتاح، ماهر، دومة وزملاؤهم) أو بالمنع من السفر على خلفية بلاغات بإهانة القضاء أو بالاتهام بالخيانة والعمالة (6 أبريل) أو بتجريح الحقوقيين ونعتهم بالمخنثين وعملاء أمريكا.
<<<
كذلك يخشى الكثير مِن مَن آثروا مقاطعة الاستفتاء ان يصير مشهد «الخروج الكبير» للاستفتاء الذى هلل له الإعلام تكئة لتعلية اسوار معبد القمع والظلم والفساد الذى بالكاد قد هزت ثورة يناير جدرانه.
فمع القبضة الامنية والقوانين الاستثنائية الحاضنة لها وامتلاء السجون بالشباب وازدياد القتلى الذين صاروا مجرد ارقام فى حصاد يومى للمواجهات بين الشرطة والإخوان، يتساءل كثيرون ونحن مقبلون على الاستحقاق الرئاسى، على مصير الحقوق والحريات التى طالبت بها ثورة 25 يناير وانحاز لها هذا الدستور الجديد الذى صوت بالموافقة عليه غالبية المشاركين فى الاستفتاء أو ما يقارب من 20 مليون مصرى.
يعنى باختصار الشباب غاضبون لشعورهم ان الإعلام المحرض ومن خلفه الجناح الامنى فى السلطة يشنون حربا محمومة لسحق روح ثورة يناير ــ آفاق الحرية التى فُتحت والكرامة الإنسانية التى انتصرت على الظلم وهما قيمتان انتٌزعتا بدماء الشهداء وبالضغط الشعبى على مدى ثلاث سنوات ولن يتنازل المصريون عنهما ابدا.. هيهات.
وخيرا فعل الفريق السيسى حسبما ورد بالتصريحات المنسوبة إليه فى اجتماع أخير لمجلس الوزراء حين أكد رفضه «تماما عودة الوجوه القديمة إلى الساحة السياسية، وأن مصر لن تعود إلى ما قبل ثورة 25 يناير» (المصرى اليوم).
فالمهم أن يقتنع الناس ان ثورة 30 يونيو لا تنفصل عن 25 يناير وليست انقلابا على مطالبها. والأهم ان يعى اهل السلطة ان المضى قدما فى تنفيذ خارطة الطريق بأى ثمن ــ حتى وإن اقتضى ذلك مزيدا من القمع ــ سيجلب عواقب وخيمة.
فالضربات الأمنية بالطبع اضعفت الإخوان ولكنهم وبأفعالهم اساسا فقدوا الكثير من تعاطف الشعب المصرى معهم. وها هم يخسرون نقابة المهندسين، واحدة من أهم معاقلهم فى انتخابات نقابية نزيهة، بعد خسارتهم الأطباء قبلها. فالثورة علمت الناس كافة ان الفراغ بالضرورة سيملأه آخرون، فحين نزل التيار المدنى إلى الواقع الميدانى وعمل بأدوات السياسة (حشد تحالفات تصويت) خسر الإخوان بالصناديق وهى الحرفة التى برعوا فيها.
وهناك مؤشر آخر نلاحظه بشأن الجموع التى قاطعت الاستفتاء والذين لم يعبأوا بالذهاب للتصويت والرافضين له والتى قاربت الـ60% من إجمالى الناخبين المقيدين بالسجلات. فقد يكون من الصعب ان يعوَل على تأييد تلك الكتلة غير المتجانسة فى الاستحقاق الرئاسى القادم إذا استمر التضييق على المجال العام وما لم تتم إزالة اسباب الاحتقان الأمنى. فإفساح هذا المجال امام العمل السياسى والأهلى والنقابى هو وحده الكفيل بتهدئة الاجواء قبل الانتخابات القادمة.
<<<
أخيرا فالبشارة الأجمل هى ان الثورة لم تنكسر ولم تنطفئ. هى كما حكى الكاتب المبدع إبراهيم عبدالمجيد فى إحدى سردياته «هى فى الفضاء.. فى الهوا.. الناس بتتنفسها بهدوء وفى لحظة هوب.. شهيق.. زفير.. اخرج يا معلم للميادين».
فها هم الشباب يهتفون فى دار الأوبرا فى احتفالية تأبين شاعر البسطاء الشاعر احمد فؤاد نجم وفى حضور وزير الثقافة وعليه القوم «يسقط كل من خان ...».
وها هى المجموعات الثورية تحشد وتعترض امام نقابة الصحفيين على الاعتقالات العشوائية وتلفيق التهم للشباب والانتهاكات الخاصة بحقوق المعتقلين وتهتف من جديد: يسقط كل من خان... فهل من يستمع؟