فى ظلمات اللحظات القاتمة، شديدة القبح.. تخرج النار من الظلام، تصطاد بألسنتها كل الآخر الذى ليس انا.. فلا يولد النور من رحم الظلمات.. لا نور بل كثير من التكفير والرفض والطرد خارج اسوار كانت لسنين هى تجمعنا على كسرة خبز وذرة ملح.. تلتئم موائدنا المشتركة وتنتقل الاطباق كل حسب عيده يبقى مذاق موحد لكل الاعياد عندما تقرع الكنائس اجراسها نخشع لها كما هو أذان الفجر قبل صياح الديك الاول.. وعندما تمر امرأة ننحنى احتراما وتقديرا.. وعندما يولد طفل نرسل الزغاريد كلنا معا. وفيما هو يكبر ليصبح شابا نستدير لنستمع لصوته القادم من المستقبل.. ننصت له بتقدير.. فى تلك السنين شديدة النور كنا نمضى فى بناء وطن ربما أو حتى بناء شعب.. اما الآن فلم يعد هناك مكان لبصيص نور عندما تحولنا الى رفض الآخر الذى ليس أنا.. المختلف عنى فى الدين أو العرق أو الطائفة أو الجنس أو العمر.. بل واتسعت لتضم كل ما لا يشبهنى فما لا يشبهنى ليس منى.
•••
لم تبدأ حملة طرد الآخر خارج القرية أو المدينة أو الوطن منذ ان قررت تلك القرية المصرية ان لا مكان فيها للمسيحيين.. لا فالحملة لم تبدأ هنا بل كانت قبل ذلك بكثير.. أحيانا نحاول ان نبعد المسئولية وفى أوقات اخرى نستخف بها، فهذه حالات فردية وتفجير تلك الكاتدرائية هى احداث ارهابية وحرق تلك الكنيسة ما هو الا عمل من بعض الحمقى أو المختلين عقليا.. ولم تقف عند مجرى النيل بل وهناك حيث دجلة والفرات ينامان فى فراغ الاحتلال وطلقات التكفير بكل ما هو ليس أنا.. لا يشبهنى لا يرتدى ثوبى ولا يغطى رأسه ووجهه كما زوجتى أو ابنتى ذات العاشرة.. هناك ايضا بدأت الحرب الاولى ضد الآخر ايا يكن هو مسيحى أو متعلم أو مثقف أو أى شخص ليس مثلى.
وهى لم تتوقف عندما قيل ان على النساء العودة للمنزل بعد الثورات العربية أو حتى عندما شكلت الوزارات منزوعة من المرأة ولا عند الانتخابات البرلمانية حيث تذيل القوائم بأسماء لنساء أو صور لورود ولا حين توحدت البرلمانات العربية على ان تكون ذكورية حتى النخاع.. أو يأتى ببعض النساء ليكملن زينة الحكم والحاكم.. نائبات ووزيرات لوزارات بمساحيق كثيرة.
كما انها لم تكن فقط عند طرد الشباب خارج الخارطة السياسية تحت ذريعة قلة الخبرة أو عدم المعرفة أو حتى الحديث بمفردات وكلمات لا يفهمها «المخضرمون» أو ربما التعبير الأصح عواجيز الثقافة العربية التى سادت لسنوات طويلة.
هى بالطبع لم تكن عندما اصبحت الحسينيات مستفزة للبعض فيما يتحول كل مبتدئ فى العلوم الى رجل دين فى احدى الزوايا يرسم خرائط للعالم الذى يجب ان يكون ويختمه بصك من الله أو بخوف من النار أو بوعد بالجنة.. وفى ذلك يتساوى رجال الدين من مختلف المذاهب والاديان يحملون المباخر ويطيلون النصح حول التوافه من الامور فيما الأمة والدولة والانسان يحترقون.
•••
هى لم تبدأ ولن تنتهى هنا.. هى الآخر الذى اما هو مسيحى أو امرأة أو شاب أو شيعى أو كردى أو اشورى او امازيغى.. كل من هو خارج القبيلة التى هى انا.. كان الحريق الاول منذ بضع سنين، فى البدء تصورنا انه لن يأتى الا الى حافة المدينة أو البلد وما لبث ان اصبح كالوباء أو الطاعون ينتقل من قرية الى اخرى ومن مدينة الى ثانية ومن صحراء الى شاطئ حتى تلك الحضارات الراقدة على اطراف الانهار العظيمة هى الاخرى لم تسلم منه.. من مرض اسمه انا ولا اخر سواى.. هى الوباء الذى يردد لا مكان لهم هنا سأتكرم وامنحهم «مكرمة» ــ كما مكارم بعض الحكام لاسكات شعوبهم ــ ان استطعت ان اسكنهم على حافة البلد أو خلف المقابر أو ربما على اطراف الكون.. وجاءت النيران المشتعلة وصبت نار غضبها علينا وكنا نعتقد انها بعيدة بعد السماء عن الارض..
فلا عيد الا عيدى ولا احتفالية الا وبها ومعها تكفير وترهيب.. ولا مناسبة الا ومعها فتوى.. رسموا عالما لهم ووضعوا الكون بداخله ونحن جميعا معهم اما ان نكون هم أو فلا مكان لنا.. يستنكر ما يقال فى اوروبا عن منع النقاب أو حضره يرددون السؤال «وأين حقوق الانسان؟».. ويعيد الكثيرون سؤالهم انها لا تجزأ ولا تقسم بين دولة واخرى وبين دين أو طائفة.. يعاد تكرار ما لا يعرفونه وهو ان لهم جميعا حقا ولنا نحن ايضا حق أو حقوق.. فلا ترموا بالآخر خارج الوطن.. ثم توصدوا الابواب خلفه.. فيخرج وينتهى الوطن فيصبح عزبة أو مزرعة.