سر الحب غير المشروط - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 1:22 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سر الحب غير المشروط

نشر فى : الأربعاء 21 مارس 2018 - 9:25 م | آخر تحديث : الأربعاء 21 مارس 2018 - 9:25 م

أسرق كل يوم دقائق أنفصل فيها عما حولى تماما. أتمدد على السرير وأنتظر أن تلتصق بى طفلتى وتتكور قربى. أتخيل أن من ينظر إلينا يرانا كالقطط وليس كأم وابنتها على سرير. أقصد تلك الصور التى يتبادلها البعض على مواقع التواصل الاجتماعى والتى تظهر فيها القطة الأم بجسدها الملتف حول صغارها.

تلتصق بى الصغيرة بشكل يبدو لى طبيعيا، فهى جزء منى حتى لو أنها خرجت إلى الحياة منذ أكثر من سنتين. بيننا ارتباط عضوى وكأننا لم ننفصل بعد. هى طفلتى الثالثة والأخيرة، وقد يفسر ذلك بعضا من استمرارى فى الالتصاق بها فأنا أعرف أنها آخر الصغار فى المنزل، فربما أننى أحاول مد فترة اعتمادها على فخففت من صرامة قوانينى وذابت معها المعايير التى كنت قد اتبعتها مع أولادى الأكبر. مع طفلى الكبيرين كنت أدخل إلى الغرفة بهدوء بعد أن يناما، أقترب منهما لأدس أنفى فى المساحة الصغيرة بين الأنف والرقبة وأشم يومهم وشقاوتهم وحمام ما قبل النوم فى نفس واحد.

هنا حيث يختفى العالم من حولنا، أنا مع الصغيرة أو مع الكبيرين أكاد أتوقف عن الوجود، لست تمارا أنا فقط أمهم. أقف حائرة عند معجزة سبقتنى إليها ملايين النساء ورغم ذلك فهى ما زالت معجزة. أن أكتشف غرفة سرية فى قلبى لا يفتح بابها سوى لأطفالى. ما كنت لأعرف عن وجود الغرفة أصلا إن لم أنجبهم فقد ولد كل واحد منهم وفى رقبته نسخة من مفتاح الغرفة يدخل إليها فيمتلك السر.

***

لم أفكر فى الأطفال والأمومة سوى فى وقت متأخر بعض الشىء، لم يخطر الموضوع على بالى أصلا إلا بعد أن تزوجت فسألت نفسى إن كنت فعلا أريد أطفالا إذ لم يكن الأطفال قد استهوونى بشكل خاص من قبل. أو بالأحرى كنت أتعامل مع أى طفل ألتقيه كما أتعامل مع الكبار: إن انجذبت إليه وأحببته تواصلت وتحدثت معه. وإن استثقلت دمه فلن أجامله حتى مجاملة لأهله.
أذكر أننى كثيرا ما كنت أفكر فى مفهوم الحب غير المشروط، خصوصا عند قراءة قصص الحب. ما معنى أن أحب أحدهم دون شروط، دون قيود، دون توقعات؟ لم أعتقد يوما أن هناك من يستحق أن يحبه أحدنا دون شروط، فحتى علاقة الحب، بالنسبة لى، هى علاقة مبنية على توقع أن يحبنى الطرف الآخر، أن يعاملنى بمحبة، أن يبادلنى الشوق والاعتناء والاهتمام. ربما فاتنى بعض ما كتب عنه العشاق وما بدا لى أحيانا أقرب إلى العذاب منه إلى السعادة، أى أن أحب أحدا دون أن أشترط حدا أدنى من التبادل، لكنى صدقا لم أقتنع بمفهوم الحب غير المشروط... حتى وضعت ابنى الأول، ثم الثانى ثم الأخيرة.

هو طاقة تبدأ فى وسط الجسد، فى نقطة أبعد من القلب قليلا. هو مكان وصفه البوذيون بأنه مصدر كل الحب وقالوا إنه حين يكون الطريق أمامه سالكا فإنه سوف يصدر الحب إلى القلب وإلى الإنسان كله. أظن أن لدى أولادى مفتاح هذا المكان، لقد حررونى من قيود لم أكن أعلم أصلا أننى مكبلة بها حتى ظهروا فى حياتى. لقد أخذ أولادى بيدى واقتادونى معهم فى مغامرات جريت فيها فى حقل زهور عباد الشمس ورميت نفسى على العشب فرمت طفلتى نفسها فوقى بينما جرى الوالدان حولنا ورشوا علينا قطرات من الندى جمعوها من على الورود فى الحقل.

***

أجلس وسط دائرة رسمها الأطفال من حولى بأيديهم وبدأوا يرقصون وأنا أحرك جسدى داخل دائرتهم لألف معهم حول نفسى. ما كل هذا الحب؟ ماذا أريد منهم فى المقابل؟ أن يظلوا حولى حين أكبر؟ لا ضمانات. أن تبقى أزهار عباد الشمس تظللنا فهى أطول منهم ومنى؟ ربما. أن يستمروا برمى أنفسهم فى حضنى فأغلق يدى عليهم بشكل يتهيأ لى ولهم أنهم عادوا فيه إلى رحمى ولو لدقائق معدودة يستردون فيها الأمان ثم يخرجون من جديد إلى الدنيا؟ تماما كما أفعل أنا، فأعود طفلة عمرها ثلاث سنوات ترتمى بين طيات فستان أمها. لحظات وتحملنى أمى فأرخى رأسى على صدرها تحت ذقنها وتقبل هى شعرى. تحبنى هى الأخرى حبا غير مشروط لم يكن من الممكن أن أفهمه لو لم أحمل ابنتى وأجلسها فى حضنى بعد أن ركضت إلىّ.

أنظر إلى صورة تضمنى مع أمى وأولادى فألاحظ شبها مخيفا بينى وبين أمى وابنتى. ثلاثتنا مكملات لبعضنا البعض وكأننا قصة يحكيها الحكواتى عن امرأة عاشت لمدة مائة عام. جدتى أيضا كانت حاضرة إذ إن أمى تشبهها وأنا أشبه أمى وابنتى تشبهنى وهكذا... هى حياة واحدة مقسمة إلى حلقات أخرجت كل منا حلقة منها مع مراعاة أن تبقيها متصلة بعض الشىء بما سبقها. فيها دموع ودراما، وفيها ضحكات وبهجة. هو خيط السرد يحكى قصة من دمشق إلى القاهرة مرورا بمدن كثيرة عشنا فيها وتركت علينا بصمات. لكن أهم بصمة هى قبلة طبعتها جدتى على جبين أمى قبل أن ترحل وطبعتها أمى على جبينى مع طلب أن أنقلها إلى صغيرتى فالقبلة هى سر لن يعرفه إلا من حاك معنا الحكاية.

هو سر الحب غير المشروط.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات