تمر الأسابيع سريعة بطيئة بمزيج متناقض من البعثرة والتأنى. يمر الوقت بملل قاتل يفرده أحدهم على تفاصيل الحياة اليومية ثم يعصف بالساعات فتتطاير كالزوبعة وتملأ القصص والوجوه الفضاء. كل يوم أقرأ سؤالا من أحد الأصدقاء بمعنى «أين ذهبت السنوات؟» وأتساءل عن هذا التناقض الذى يشعرنى بأن الوقت يمر ببطء وسرعة فى آنٍ واحد.
***
بالأمس كنت طفلة وغدا سأجلس على كرسى من القش أمام بيتى أتأمل المشاة. بالأمس كنت شابة تبدأ حياتها المهنية واليوم أنا أم لثلاثة أطفال أشعر أحيانا أننى كالدجاجة أتدحرج على ساقين وأحاول أن أظلل عليهم من حولى. كل يوم مشحون بالأحداث بين متطلبات العمل والعائلة، أنا أخطبوط تتحرك أياديه الثمانية فى كل الاتجاهات. أحب الزحمة وأعرف أننى سأشتاق لها حين لن يحتاجنى أولادى بعد سنوات. يبدأ كل يوم بشحنة من الكهرباء أشعر أن أحدهم أطلقها على سريرى حتى أننى لا أعرف كيف أصل من السرير إلى المطبخ فى الصباح فلا أثر فى ذاكرتى لعملية الاستيقاظ. أحب هذه الزحمة فى سرى حتى لو أننى أتأفف منها فى العلن. أحب صوت الأولاد، أحب مشاكسة زوجى حول أمور صغيرة يحاول هو أن يترفع عنها وأرغمه أن يجيبنى عن التفاصيل.
***
أحب كراكيب أولادى فى غرفة الجلوس وأخاف من منظر يوم سيأتى حتما فأرى غرفة منظمة حتى لو أننى أطلب منهم كل يوم أن يتوقفوا عن رمى أشيائهم فى كل مكان. كتبهم تذكرنى بمراحلهم العمرية والمدرسية، الطبق يعنى أنه كان مساء عاديا أكل فيه أحدهم خبزا وجبنة وترك الطبق وعلى الأغلب أننى عاتبته وأجبرته على وضع الطبق فى المطبخ.
***
أطلب من جميع من فى البيت أن يصمتوا قليلا ريثما أكمل مكالمة مهنية وأخاف من يوم سوف يطبق الصمت على المكان من حولى. أحب أن أسمع ابنتى تغيظ الأولاد وأضحك على قدرتها أن تخرجهم عن طورهم وهى أصغرهم! أسمع الأصوات من بعيد بينما أحاول أن أركز فى العمل لكنهم سرعان ما يجتاحون المكان فيخفت صوت من فى الهاتف ويبهت العالم حين أتخيله بعد رحيلهم من البيت.
***
يتوقف الزمن تحت وطأة متطلباتهم ثم سرعان ما تمر سنة وأعرف أنهم كبروا خطوة باتجاه انطلاقهم. حين زرت والدى أخيرا أمضيت عدة أيام فى بيتهم كما أصبح بعد رحيل الأولاد، أى أنا وأخى. عدت إلى بيت العائلة وكأننى أعود إلى رحم أمى، ففى العودة دون عائلتى بعض من عودتى إلى نفسى حين كنت ابنتهم فقط، وليس زوجة فلان أو والدة فلانة. لكن فى العودة إلى بيت العائلة أيضا إدراك لما يصبح عليه البيت دون أولاد: مكان هادئ مطمئن ومريح، مكان يبدو أن الزمن توقف فيه بين كل زيارة. تماما كما يتوقف الوقت على الجنين فى الرحم حتى لو أن الفترة هناك تسعة أشهر.
***
يتأرجح الجنين على موجات الأم وصوتها، تماما كما عدت أنا إلى صوت أمى خلال زيارتى لبيت العائلة دون أن ترافقنى عائلتى. هناك انشغلت أمى بى وسألنى أبى عن أمور كثيرة حتى أننى شعرت للحظة أن ثمة زحمة من حولى حتى فهمت أننى الزحمة!
***
هكذا إذا يتأرجح الوقت بين التوقف والانفلات، يمر ببطء لكنه يأكل من العمر سنوات أقف أحيانا فى وسطها فى محاولة منى أن أفهم ما حدث من حولى. متى بدأت علامات الكبر تظهر علىَّ؟ متى تحولت نبرتى لتصبح كنبرة أمى؟ متى انتقلت وزوجى من مرحلة شباب الحب إلى نضجه؟ كيف أخذت كثير من أحاديثنا طابعا عمليا نخطط فى معظمه لجوانب عدة من حياتنا؟ لماذا أسأل كل هذه الأسئلة وكأنه تغيير سلبى؟ هو إيجابى، أليس كذلك؟
***
فى اليوم 24 ساعة، لذا فلا مفاجآت! لماذا تفاجئنى السنوات وآثارها على وجهى؟ كل هذه الندبات على القلب والروح، لم تعد تؤلم لكنها تذكر بأحداث على عدد السنوات، بالإشارة إلى زمن يمضى ولا يتوقف عند موت الأحباب أو فراق الأصدقاء. أظن أن ثمة تخديرا يحدث أمام مرور الساعات، كأن أجلس أمام ساعة حائط بعقربين كبيرين وأراقب تحركهما بينما تشرق الشمس وتغرب من خارج الشباك.
***
ها أنا إذا اليوم وسط الزحمة وأريد أن أبقى هنا. أنظر إلى ساعة الحائط فى محاولة سبقنى إليها الكثيرون أن أثبت العقارب فيتوقف الزمن. سوف أبقى هنا عدة سنوات، تماما كما سألت ابنتى ذات يوم إن كانت تسمح لى بأن أبقيها فى سنواتها الخمس وحجمها الحالى فضحكت من السؤال.
***
أخطبوط الزمن والزحمة يحاول أن يمسك بقصص كثيرة وضحكات وتفاصيل ويرفض أن تفلت منه. أخطبوط الزمن والزحمة يريد أن يبقى كل شىء معه (معها!) فلا يقفز من أيديه الأطفال ولا يفلت الزمن ولا تزيد السنوات على وجهه (وليس على وجهى) خطوط العمر. أخطبوط يعرف أن زحمة الحياة تعطيه طاقة وأن الأصوات من حوله تملأ حياته (حياتها!) بالمعنى. سوف تتحرك الأيادى الثمانية طوال الوقت فى محاولة لخلق زحمة مستمرة، هذه هى زحمة الحياة التى يحبها الأخطبوط.
كاتبة سورية