فى كتبنا المدرسية الأولى، أى كتب المرحلة الابتدائية، إذا كان للذاكرة بقية، كان الحديث يكثر عن أهمية الجمعة والتجمع فى مقابل الفرقة والتشرذم. جاءوا بقصص من القرآن وقصص أخرى من التراث عن ذاك الرجل العجوز الذى جمع أبناءه وأعطاهم حزمة من العصى وكيف أن العصاة الواحدة تكسر بسهولة. كل ذلك التاريخ الحافل بالتعليم المرتكز على معنى القوة وارتباطها بالوحدة عكس التفرق والتفرد الذى ينهى الفرد والمجتمع ويقضى على الشعوب.
ذلك الدرس التاريخى برز فى مراحل مختصرة ومقتضبة من تاريخنا الحديث فيما طغت الفرقة والتشرذم حد الجزم لدى أصحاب نظرية المؤامرة بأنها «صنعت» فى عواصم مختلفة ونفذت بأيدٍ عربية أصيلة! وبقيت سنوات العرب لا شىء يجمعها سوى الفرقة ومزيد من التمزق حتى سهل ابتلاع بعضها واقتناص أخرى ورمى ثالثة فى متاهات الحروب والتناحر والإرهاب. كثير من الفرقة أصابت الشعوب نفسها حيث انقسم البعض على الآخر وانتشر الاقتتال الداخلى وعبر الحدود والبحار والأنهار.
***
تعاد الصور إلى الذاكرة عندما رفعوا هم ذاك الشعار «معا ننتصر» فى تجمع يبدو غريب المزاج والهوى. مدجن بعض الشىء لأنه لا يوجد ما يستطيع المواطن البسيط أن يفسر الجمع حوله وبه سوى ربما المال والتجارة ومزيد من الاستباحة والاستغلال والنهب للثروات عبر مسميات أكثر «رشاقة» وأكثر «حداثة» وأكثر تمويه!
أن تختفى كلمة «معا» من قواميس العرب إلا فى الوثائق الصفراء التى تراكم عليها التراب وافترستها آفات التقسيم المتعددة، وما تلبث أن تعود لتبرز فى شكل تجمع لأنماط من الأنظمة والحكومات والمسئولين الذين كانوا قبل أيام يكيلون بالشتائم لبعضهم أو لجزء منهم ومن بينهم دول كانت قد منعت مواطنين دول أخرى من دخول بلادها ولابد أن العربى الجالس يحتسى فنجان قهوته أو كوب الشاى المعتق بتعبه وفقره، لا بد له أن يتساءل كيف يرفع شعار معا مع هؤلاء فيما لا نعرف أن نجتمع نحن الأقرب والأكثر عرضة للاضطهاد كثيرا والاحتقار أحيانا؟
***
كيف يتوقع المسؤلون أن تكون ردود فعل المواطن الجالس عند ضفاف الأطلسى أو المتوسط أو حتى على حافة كورنيش خليجى «متمدن»؟ هل يستطيع استيعاب معنى «معا» الملونة والممزوجة بكثير من النماذج المختلفة التى لا يجمعها أى عرف أو دين أو حتى مبدأ أو أخلاق. ربما يقول أحدهم لا أخلاق فى المصالح. إذن فهذا تجمع للمصالح وما يجمع بكل هذا الكم من القادمين من بقاع الكون هو المصلحة الواحدة ربما ظاهرها محاربة الإرهاب وباطنها كثير من الصفقات والمال والسلاح!
***
تبدو الصورة للرجل الغاضب على المسلمين والإسلام الذى بدأ ولايته بتلك الحملة المتناقضة. ذاك شاغل الناس والإعلام فى بلاده والذى لا تشرق شمس يوم جديد دون أن يرسل تغريدة تشغل كتاب الأعمدة ربما لأيام. تبدو تلك الصورة التى أظهرت مدى تشوه بعض الديمقراطيات وفسادها بالمال، تبدو مستهجنة وهو الذى لا يتخلى عن تكشيرته وتعبيره عن غضبه من الآخر ـ كل الآخر، فما بالك إذا كان ذاك الآخر من دين هو يعتبره بأكمله إرهابيا. هكذا توصل بمحدودية فكره وفهمه للسياسة. هكذا يرى صاحب الشركات عابرة القارات ذاك الذى لا يعترف بالنساء حتى زوجاته ولا يرى فيهن سوى دمى وأوعية جنسية. أنماط «باربى» المغرية. هو القادم ليقول لهم لنفس الذين يسخر منهم ويرفضهم فى تغريداته المتعددة وهى كثر. يقول تعالوا لنعمل «معا» تلك الكلمة العربية الأكثر قوة والتى تلازمت فى تاريخنا الحديث والمعاصر بمفاصل بدأت بـ«معا» وانتهت بفرقة وتشرذم أكثر وحروب وتقسيم قضم لمناطق ومساحات من دول عربية عدة.
***
كم هو المشهد غريب. كم هو الواقع يزداد صعوبة وألم، وترفع التساؤلات الكثيرة ومنها أين كل هذا الشباب العربى الكثير. كل هذا الجيل الذى قال قبل بضع سنين «حرية وكرامة وعدالة» ربما عليه أن يخرج من جديد ولو على شبكات التواصل ليقول لا للكذب بمسميات عدة، لا لإدخالنا فى بحور من الديون تحت مسمى محاربة ذاك العدو الأوحد، فيما وزيرة ثقافة العدو الحقيقى تستفز كل المشاعر فى مهرجان «كان» بفستانها الملطخ بالدماء وليس بصور القدس الشريف!