تأتى الذكرى السبعون للنكبة وقيام دولة إسرائيل فى ظل تطورات خطيرة ومأساوية، أهمها، دون شك، نقل السفارة الأمريكية إلى القدس «العاصمة الموحدة لإسرائيل» مع ما يشكل هذا القرار من خرق فاضح لمختلف قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وتحديدا قرارات مجلس الأمن. كما يمثل انقلابا على مواقف جميع الإدارات الأمريكية السابقة ونسف لمرجعيات عملية السلام؛ العملية المعطلة لا بل المنتهية الصلاحية.
وللتذكير، فإن جميع هذه المرجعيات تعتبر القدس الموحدة عاصمة للدولتين. القدس التى تحتل مكانة خاصة عند أتباع الديانات السماوية الثلاث. رد الفعل الشعبى الفلسطينى كان أكثر من طبيعى. جاء رد الفعل هذا تحت عنوان بسيط فى تقديرى اسمه «كفى»، وذلك نظرا لموقع المدينة من الناحيتين الوطنية والدينية عند الفلسطينيينوالعرب، مسلمين ومسيحيين. احتفال إسرائيلى أميركى من جهة، ومن جهة ثانية مجزرة ترتكبها إسرائيل كل يوم تجاه الشعب الفلسطينى. مخاطر الفعل الإسرائيلى المؤيد أمريكيا أنه يعطى قوة دفع وكذلك تبرير لمنطق الأصوليات. المنطق الذى يقوم على إلغاء الآخر.
يأتى ذلك فى لحظة تاريخية تتسم بانتشار وتصاعد دور الأصوليات الدينية وغيرها. وكانت إسرائيل، حكومة ومجتمعا، سباقة فى انتشار الفكر الأصولى اليهودى وترجمته فى سياسات على أرض الواقع ضد الشعب الفلسطينى.
***
رسائل عديدة تحملها هذه التطورات:
أولها، إنهاء كلى لدور الوسيط النزيه، الدور الذى كانت تدعى الولايات المتحدة الأمريكية إنها تقوم به، ولو أنه فى حقيقة الأمر لم تكن تخضع كليا لمعايير هذا الدور.
يحصل ذلك فى لحظة عودة أمريكية قوية إلى المنطقة فى إطار حروب إقليمية جارية بأشكال مختلفة. ويعلنذلك أيضا عن الوفاة الرسمية لعملية السلام التى انطلقت فى أوسلو وتعثرت فى اليوم التالى لانطلاقها.
وقد ظن البعض أنه يمكن إعادة إحيائها من حالة الكوما التى دخلت فيها لسنوات عديدة. إن ما يشجع الولايات المتحدة على اتخاذ هذه المواقف الجديدة أن القضية الفلسطينية لم تعد على أجندة الأولويات السياسية للنظام الإقليمى العربى. هذا النظام الذى يغرق فى صراعات مختلفة متعددة الأسباب والأوجه وفى صراعات الآخرين من قوى إقليمية ودولية جارية على جغرافية هذا النظام على طول امتداده. صراعات تجرى باسم أيديولوجيات كبرى حينا، واستراتيجيات كبرى ــ أحيانا فى نظام إقليمى عربى تحول إلى مجرد ساحة لهذه الصراعات.
قرارات جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامى لم تكن مفاجئة بالطبع. إلى جانب الإدانة والتنديد والتحذير، كانت هنالك المطالبة، دون شك، بشىء أكثر من أساسى، ولكنه بالطبع غير كافٍ بتاتا، مثل تشكيل لجنة تحقيق فى المجازر الإسرائيلية ونشر قوة دولية لحماية الشعب الفلسطينى.
فى ظل الغياب الساطع للقضية الفلسطينية عن جدول الأعمال العربى الفعلى وليس المراسمى بالطبع كما أشرناسابقا، وفى ظل انشغال النظام السياسى الفلسطينى بمؤسساته وتنظيماته فى صراعات الداخل وفى التنافس على سلطة مفقودة، وفى ظل غياب أى بوادر لبلورة مشروع وطنى فلسطينى يبقى مسئولية فلسطينية أولا، قبل أن يكون مسئولية عربية، فى ظل ذلك كله، يصبح الوضع الفلسطينى أمام سيناريوات خمس:
أولا: سيناريو تبريد الأجواء ضمن لعبة شراء الوقت ولكل طرف خارجى أو داخلى بالنسبة لفلسطين، حسابه بعد شعور الجميع بالوصول إلى حافة الهاوية والخوف من المجهول. أنه سيناريو انتظار إعادة تموضع أفضل لكافة الأطراف المعنية. وينتظر البعض الإعلان عن صفقة العصر الأميركية، التى قيل أنها ستأتى بعد نهاية شهر رمضان. صفقة صارت عناصرها معروفة، والجميع يدرك بشكل أو بآخر أنها لن تسمح بإعادة وضع القضية الفلسطينية على سكة التسوية، لا بل أنها تحاول أن تستعمل الورقة الفلسطينية لأهداف سياسات إقليمية معينة.
المشترك فى هذا السيناريو هو الخوف من المجهول وكل ينتظر تطورات، قد تكون لمصلحته بشكل أو بآخر.
ثانيا: سيناريو آخر عاد إلى الظهور بعد عقود من الغياب يقوم على إحياء، ولو خجول، عند بعض المثقفين المثاليين، فلسطينيين وإسرائيليين بشكل خاص، لفكرة الدولة الديمقراطية الواحدة من النهر إلى البحر. عنوان يبدو أنه مثالى جدا بعد التراكمات التى حملتها القضية الفلسطينية من حروب إلغاء وسياسات توسع إسرائيلية ومع انتشار الأصوليات الدينية وغيرها هنا وهناك. فإن هذا السيناريو كان طموحا وجذابا، ولكنه يبقى على الرف، يتذكره ويذكر به بعض المثاليين هنا وهناك.
***
ثالثا: سيناريو استمرار وتكريس نموذج جنوب أفريقيا العنصرية. جنوب أفريقيا الماضية التى أسقطتها ثورة مانديلا. وقوام هذا النموذج تعزيز دولة أمر واقع لإسرائيل بين البحر والنهر، تقوم على معادلة الحصول علىمصادر الحياة من أرض ومياه جوفية من جهة، والتخلص بأشكال مختلفة من ضغوطات الديمغرافيا الفلسطينية. مع التذكير أن الشعب الفلسطينى يشكل نصف الديمغرافيا الممتدة بين نهر الأردن والبحر المتوسط.
باختصار، أنه نموذج جنوب أفريقيا الماضى المكروه من الجميع فى العالم، ولكن لإسرائيل دائما استثناء فى النظام الدولى. فهى قادرة على القيام بفرض دولة الأمر الواقع بشكل أو بآخر.
رابعا: سيناريو الدول الثلاث. ومقصود هنا، دولة إسرائيل التوسعية فى مستوطناتها وقدسها الموحدة إلى جانب كيانين فلسطينيين لا يصلا إلى مستوى الدولة الوطنية.
كيانا أمر واقع مبتورين ومشوهين فى جغرافيتهما. وكذلك فى طبيعة السلطة التى تحكم كل منهما. أول هذين الكيانين، بقايا الضفة الغربية، والكيان الثانى، غزة السجن ذات السماء المفتوحة.
هذا السيناريو يطرح بالطبع تحت عنوان مرحلى ويعزز الدعوة له الاعتماد على سياسة الجزرة الاقتصادية والتنمية من أجل تثبيت استقرار لا يمكن أن يستمر ولكنه، حسب أصحابه، قد يساهم فى تنفيس الضغوطات والتوترات.
خامسا: سيناريو حل الدولتين اللتين تعيشان جنبا إلى جنب، على أساس حدود ال ٦٧. وهو السيناريو الذى يصارع الوقت، الذى يعمل ضده، مع التطورات التى تفرضها إسرائيل فى الجغرافيا وفى الديمغرافيا على الأرض الفلسطينية.
سيناريو، شروط قيامه واضحة ومرجعيته والتوافق الدولى حوله معروف، لكن ظروف ترجمة هذا السيناريو، الذى يبقى نظريا ومبدئيا إلى أرض الواقع تلزمه شروط معينة، أهمها، دون شك، وجود توازن قوى ليس فقط، رادعا لإسرائيل، وهذا غائب، إنما ضاغط على إسرائيل من أجل القبول بهذه التسوية، باعتبارها التسوية الوحيدة التى تحقق السلام الشامل والدائم والشرعى فى الشرق الأوسط.
يعانى هذا السيناريو من تخمة فى القرارات وغياب كلى لإرادة التنفيذ. إنه الحل الموعود أو المنشود ولكنه، للأسف، يتآكل مع الوقت.
خلاصة الأمر، أن الوضع الحالى الأزموى والكارثى، بالنسبة للعرب وليس فقط للشعب الفلسطينى، يجب أن يدفع إلى الوقوف فى لحظة تفكير جدى لوقف الانهيار وتلافى السقوط فى المجهول الحامل لمخاطر على الجميع، وليس فقط على الشعب الفلسطينى، ولو بأشكال وأوقات مختلفة.
هذه الوقفة مع الذات أمر أكثر من ضرورى، فلسطينيا وعربيا. ولنتذكر أن الهويات الوطنية لا تموت ولا يمكن إلغائها. وحتى لا تصبح القضية الفلسطينية ورقة مضافة، جذابة وفعالة فى الصراعات القائمة فى المنطقة، وحول المنطقة، والتى تستند إلى أوراق عديدة محلية ووطنية وإقليمية يستفيد منها الكبار وتدفع ثمنها الشعوب. حتى لا يحصل ذلك نتمنى حصول هذه الوقفة العربية مع الذات، وقفة نقدية تحاول أن تبلور سياسة شاملة لتسوية القضية الفلسطينية.