بدأت تستيقظ تدريجيا.. الشوارع فارغة من العربات والمارة، ما هى إلا لحظات وتبدأ حركه متثائبة، بعض دراجات هنا وسيارات التاكسى الصفراء تعبر الجسر أمام ذاك المبنى الطويل فى مدينة مستلقية فى حضن النهر مع طلعة الصباح الأولى.. يمشى ذاك من بعيد وكأنه دمية آدمى حاملا كيس زاده ومتجها إلى عمله اليومى الشاق، وفى نهاية اليوم يقبض الفتات، كما هو حال ملايين البشر على امتداد الأرض المستديرة.. وآخر يجرى سريعا ليلحق بالمواصلات العامة قبل أن يتأخر على موعد بدء عمله ووجوه لنساء ورجال فى الأتوبيسات كل سارح فى «مواله»، ولكل قصة وحكاية حتما خاصة، وأن سنوات عجافا قد مرت ولا تزال تحفر فى يومياتهم وجعا يبقى مخزنا كما الحب والفرح بين الجلدة والعظم.. يستدعى الكثيرون الذاكرة فلا زاد ولا زواد لهم أو لهن سواها، يغرفون منها لحظات من الفرح وكثير من الأمل، حينها كانت الياسمينة فى كل مكان تطاردك رائحتها الزكية فى الأزقة وبين جدران البيوت التى كلها حكايات مخزنة.
***
لا الصباحات ولا المساءات هنا تشبه أى مدينة، فلا يزال السكان يقضون أوقاتا فى الحدائق العامة والعشاق، كذلك يلتصقون تحت شجرة أو تمثال وكأنهم يختبئون من الأنظار المتطفلة.. يلعب الأطفال على مقربة منهم كرة القدم دون صياح شديد، كما هو حال نفس اللعبة فى الأماكن البعيدة.. لا يزال الأطفال يعرفون معنى أن تلعب فى الهواء الطلق بين وتحت ظلال الأشجار الوارفة، لا يزالون يعيشون اللعب ذاك الذى أصبح بعيدا عن دنيا الأطفال فى العالم عندما صادقوا الهاتف أو الآيباد واكتفوا بهم كأصدقاء ووسيلة للعب والترفيه وقضاء الوقت وحتى للتعارف على الجنس الآخر.. فالصبية لم يعودوا للوقوف فى الحدائق والأماكن العامة يقتنصون نظرة لفتاة عابرة بل هم يقومون بـ «شات» عبر شبكة التواصل.. لا تعليق ظريف كـ «أحلى وحدة أم جزمة حمراء» فتنظر الفتيات ليجدن ألا واحدة منهن تلبس حذاء أحمر فيلتفتون جميعا نحو الصبية ويضحك الجميع أو يبتسم، لم تكن إلا مداعبات بريئة لا تحرش ولا لمس ولا تعليقات فاضحة تمثل إهانة للمرأة مهما كانت محتشمة.. ففى دراسات فى بعض الدول العربية أن المنتقبات والمحجبات أكثر عرضة للتحرش من الفتيات غير المحجبات.
***
تبطئ الحركة تدريجيا والشمس تتوسط السماء وتعود للصخب وقت انصراف الموظفين والطلاب حيث يعلو «صريخ» العربات، ولكن هذه مدينة لا تعرف «التزمير» العنيف كما كثير من مدننا بل هى معتدلة بعض الشيء، ولا تزال تملك بعض القواعد التى هى الأخرى كالأخلاق والنزاهة بدأت تتلاشى كحبات الرمل بين أصابع اليد..
***
عند المساء تأتى نسمة لتبرد حرارة يوم طويل غائض ويتحول مشهد المارة إلى أجواء جديدة من الغنج والفخامة فى اللبس حيث السهرات لم تنقطع رغم كل ما مرت به.. ومن لا يملك تكلفة وجبة فى مطعم متواضع أو مرتفع التكلفة، فليس لهم إلا نفس تلك الحدائق التى هى الأخرى تلبس حلية جديدة بأنوارها الخافته وكأنها تدعوهم إلى هنا، إلى مخابئ العاشقين والمحبين.. هى سترهم وغطاهم فى ليل طويل تغلفه بعض ألحان شاعرية تأتى من ذاك المقهى المتربص بالمارة على ناصيتين من الشارع، فلا يمكن أن يمر المرء دون أن تغريه أكواب الشاى والعصير ولعبة الطاولة وكثير من «الشيشة» التى لم تعد هناك قهوة أو مطعم خالية منها. هنا لا إشارات لمنع التدخين ولا تعليمات وإجراءات من أجل الجالسين ولا حتى أى إشارة تعطر صفو القادمين الباحثين عن مساحات للقاء وطرح الأسئلة. هذه المدينة احتفظت بكثير من تراثها وعادات أهلها وأهمها أن المقاهى هى ملتقى للشعراء والحالمين والباحثين عن أخبار هنا وهناك أو تحاليل للوضع العام فى المنطقة وتنبؤات بالقادم، وعند التعب من الحديث فى الشأن العام يعودون إلى لعبة الطاولة أو التأمل بين الدخان المحلق من تلك الأرجيلة ومتابعة المارة.. وهى فن جميل يسميه البعض فضول وهو فى الحقيقة شكل من أشكال الاطلاع والقراءة التى تنقلك إلى مساحات ومدن وأحاسيس لم تعرفها ولم تكن لتعرفها لولا الولع بالقراءة والكتب.. هذه المدينة لا تزال تضج مكتباتها بالزوار مثلها مثل «السوبر ماركت» بل ربما أكثر ولا تزال الكتب المطبوعة لها روادها ومحبوها ولا يزال الشاى مخدرا وليس أكياسا، مما هو بعض شاى وكثير من المواد الأخرى دون طعم ورائحة.. هذه مدينة برائحة الياسمين..