نشر موقع على الطريق مقالا بتاريخ 19 يوليو للكاتب نصرى الصايغ، يقول فيه إن العالم ــ منذ بدأ ــ وهو يتسم بالفوضى، لا قاعدة ولا عقيدة ثابتة فيه. كما تناول تسلسل ظهور الفوضى منذ قتل قابيل لهابيل حتى الحرب الروسية ضد أوكرانيا.. نعرض من المقال ما يلى.
الفوضى هى القاعدة. لا عجب إذا، إن كنا نعيش فى الفوضى. العالم يتقدم لفظيا ولغويا.. الطوباوية كذبة مزمنة، والسلام لن يحضر فى يوم من الأيام. لذا، نحن فى دوامة تجديد الكوارث. لا صواب أبدا. العقل يدعى النزاهة. إنه خادم أمين لنوازع الغلبة والقهر والظلم.
هل هذا هذر أو هذيان؟
الواقع هو الحكم. الأفكار تغالى فى ادعاء أمجاد الحلول، البشرية منكوبة. لأن قوامها قائم على الإنسان. والإنسان، مذ وجد، يشيع فى العالم الفوضى. لا ديمومة لأى فكرة، لا ثبات لأى عقيدة، لا ممارسة لأى دين. تكونت جماعات وقبائل وطوائف ومذاهب وأنظمة اقتصادية متتالية و... وكانت النتائج واضحة: المزيد من المآسى والفجائع... لا، ليس الموت هو الأزمة، بل الراحة. الحياة، هى الجحيم. والطريق إلى الجنة مقطوعة، منذ قتل قابيل لهابيل. فلا غرابة إذا: إن عرفنا الانسان، بأنه «كائن يقتل»، أو «يؤيد القتل»، أو «جبان لأنه لم يقتل، أو يُقتل بعد».
بودلير الشاعر رأى أن الحداثة، «تميل إلى تعميم الفوضى». كان وعد الحداثة أن تثمر حركة الثقافة وعجلة العلم فى تأسيس عالم ينتج أنماطا مثمرة إنسانيا، لا ماديا وتنظيميا. دخلت البشرية دوامة الوعود: الحرية للجميع. الخير للجميع. الحكم من الشعب. المساواة ميزان العدالة. الديموقراطية «نظام فاضل». العلم فى خدمة الإنسان. الإنسان هو مركز الكون وكل اهتمام. تحرير الدول والأمم من عاهات التخلف والفقر والظلم والتبعية. تحريم الاستعمار، وتجريم الاستيطان.
ونحن، كعرب وكيانات، صدقنا عن جد كل ذلك. صارت الحداثة ديننا. الحداثة بحد ذاتها ــ كسلسلة من المفاهيم والقضايا والرؤى والحركة. لكنها لم تكن كذلك. كان كل ذلك شذوذا جميلا، عن القاعدة الراسخة. «التطور إنسانيا»، هو من سىيئ إلى أسوأ. ومن لا يرى هذا الرأى، فليراجع فداحة ما أنتجه العلم فى تطوير الأسلحة، أسلحة الدمار الشامل. ماذا حل بالكيانات الوطنية الرخوة. لقد بقرت بطونها. العرب باتوا على قارعة الطرق يستقبلون ويروجون للفتن. أما الاستيطان، فلم يعد عارا أخلاقيا وإنسانيا. بل أضحت الحداثة على قاب قوسين من تعيين «أورشيلم» الحكومة العالمية الحاكمة والمتحكمة.
• • •
لم نكتشف بعد، من البدايات، العناصر الخالدة لعدم التغيير إلى الأسوأ ثيابنا تغيرت، أما عقولنا فتغذت من فضلات الحضارة، التى لا تشبع إلا من يمسك بيده، زمام الغذاء والدواء والطاقة والمواصلات والنفط والتجارة والأراضى والممرات المائية.. والفضاء كذلك. علما أن مليارى إنسان يعيشون تحت خط الفقر.
يا لهذه الحداثة الفذة!!
النصوص الجميلة، لا يمكن أن تلجم التدفق العنفى، والرأسمالى والتنافسى وإلهاب المشاعر بعصبيات سهلة. العصبيات نفط الحروب والقتال والإبادات. كل شىء يتغير إلا العنف. كل شىء يتبدل سوى الفوضى. أليس معيبا أن «تختلق» القوى العظمى بعد الحرب العالمية الأولى حلا سلميا للحروب. وساهم علماء وفلاسفة (أينشتاين ــ فرويد وسواهما) فى تدبيج نصوص سلامية رائعة.. فظيع هذا القفز من «المكتوب» الجميل والرائع، إلى خوض حرب عالمية ثانية، الأوسع تدميرا وقتلا وتشريدا. الذين وقعوا على ميثاق عصبة الأمم، لضمان السلام العالمى، كانوا عمالقة الارتكاب الكارثى لشعوب الكرة الأرضية ولأول مرة ربما. يكون عدد القتلى من المدنيين/ات أضعاف وأضعاف من العسكريين. ثم أعادت الدول المنتصرة فى الحرب العالمية الثانية، تجربة «جديدة». مجلس أمن دولى. لحفظ الأمن. خمس دول لهم حق الفيتو، لحفظ الأمن الدولى. الدول الخمس، المنذورة نصا لحفظ السلام، شاركت فى معظم الحروب. ولم تمر سنة، من دون حرب.
القرن العشرون. بلغت الحداثة ذروتها. كانت بداياته متفائلة. «القانون الجيد، لا بد أن يكون جيدا لكل إنسان، تماما كما أن القضية الصحيحة هى صحيحة بالنسبة للجميع». غلط. هذا إفراط وتبسيط. الأقلام التى بيد الأقوياء، هى سيوف حادة وبنادق متدفقة الطلقات. الكلمات لا وزن لها. التأويل والتفسير والاجتهاد يفتك بالفكرة، تماما كما فتك بالديانات السماوية. التأويل والتفسير يؤدى إلى التسليم بالتكفير وتتويجه قديسا فى ملكوت الجحيم البشرى.
مشروع التنوير الإنسانى، الذى أنبأنا بتفاؤل متين: «فهم العالم، تقدم أخلاقى، العدالة الدولية، تدفق العلوم، السعادة لبنى البشر». لم يصمد شىء من هذه الطوباويات. لقد مزق القرن العشرون وهذا الربع الأول من القرن الواحد والعشرين هذا التفاؤل وداسه بجزماته ودولاراته وسيطرته، وفتح الأبواب لمعسكرات الموت. لفرق التدريب، للمحارق (ألمانيا الهتلرية) وعسكرة الأنظمة (خاصة فى عالمنا العربى البائس والذى يدوسنا بأعقاب بنادقه) وحربان عالميتان وخطر نووى و... يا الله أين أنت!!
لا تفاؤل أبدا. لا يعوَل على فجر.
• • •
لا أكتب عن عرب. هؤلاء وقود فقط. منذ مائة عام ونيف، وهم فى المذبحة. تم تلقين الإنسان الخضوع. عقوبة المواطنة الإلغاء. ليس فى العالم العربى برمته، مواطنون من المحيط إلى الخليج، يعالج هذا الشعب العملاق، بالقمع والسجن والقتل والتعصب. وظيفة الأنظمة أن تسيطر على الجميع، على الأصدقاء أولا، ليكونوا عملاء لها، وعلى الأعداء، ليكونوا زبائن السجون وقتلى المعارضات. لا مشروع عربيا جديا، كان له حظ انتشال الإنسان العربى من هذا العالم الكافكاوى المعتم والأعمى. كل الوسائل غلط. الغايات تم حصرها فى التدجين وتصديق الكذب، والله «غالب»، والاتكال على الآية والنص المنضبطين بقوة الشرطة والأمن. الآية وحدها تحرر الإنسان. الآية المعتقلة من السلطة، تحرم الدين من جودة الإيمان. وكما الديمقراطية سلعة، يصير الدين سلعة. الضدان يتشابهان. ذلك أن الديموقراطية الليبيرالية، أعطت الحرية للرأسمال، وضيقت بقوانينها، حرية القول، عبر تأميم وسائل التعبير. الإعلام تم القبض عليه. ومنذ 40 عاما، تم القنص عليه وأصبح حذاء لدى الرأسمال العابر للذوبان والدول والأوطان والإنسان... الإنسان المتفوق اليوم، هو الإنسان الخادم الصادق، فى نظام زيادة ثراء الأثرياء، وإفقار الفقراء، وإعدامهم جوعا ومرضا وتهجيرا.
إنه فعلا عالم كفكاوى.
وداعا روسو الذى اعتبر «أن البشرية ملزمة بأن تصبح حرة». بيكون تنبأ: «المجتمع الطوباوى يسكن فيه الكهنة الحكماء، حراس المعرفة وقضاة الأخلاق والعلماء الحقيقيين».. هؤلاء فى وسعهم ممارسة سلطة أخلاقية على الحياة. ماركس، تنبأ نبوءة فاشلة: التحرر الكامل للإنسان يمكن أن يحصل، من رحم القيود الطبيعية القمعية لمنطق التطور الرأسمالى ــ التحرر، يحصل، عندما يتولى المنتجون المباشرون مصائرهم بأيديهم.
عبث. كل هذه النبوءات فاشلة. الغلبة للمال على العقل والعالم، المال إله من أقوى واقصى وأكثر الوحوش توحشا.
وداعا روسو. عفوا بيكون، ماذا أصابك يا ماركس؟ وأنتم، يا رواد النهضة العربية، ماذا كانت نتيجة أحكامكم وقضاياكم التى رأيتم فيها الإنسان أولا؟ كلكم ساهمتم فى تعميم وهم النهضة. نعم. ابتلينا بالعمى الدينى والأفيون الطائفى، والإغراء المالى والانتفاء البشرى.
لبنان فى آلة التخريب الكونية. لا معاناة لأى كيان من بشاعات الظلم والفقر والخوف. قلة متوحشة، كما عندنا فى لبنان، تأتمر برأس المال كى تظل متحكمة ومحكومة لمن هم أقوى منها فى المحيط أو فى محاور التأثير المدمر؛ لذا، لا يجب أن ننعى لبنان وحده الذى يستدعى الموت كى يجهز عليه. فالعالم مصاب بعُصاب القتل. ألا ترون ما يحصل فى أوروبا. أوكرانيا مرمى حرب بين عمالقة تتطاحن على النفوذ والموارد الطبيعية، من أجل ثنائية عالمية متنافسة ومفترسة، الاثنان يتشابهان. محاولات التميز اللبنانى مكشوفة ومفضوحة. كما أنتم منقسمون فى لبنان، على لبنان، وعلى إيران، وعلى السعودية، وعلى إسرائيل وعلى أوكرانيا وروسيا وأمريكا، كذلك أنتم منقسمون على كل شىء فى لبنان. لم تخترعوا البارود. أنتم هنا وهناك وهنالك، دائما لبنانيون فى أبأس حال وفى أسوأ انقسام، وتدعون الريادة.
•••
أخيرا. نحن، فى هذا الزمن المتسارع، ضحية التقدم. إنه التدمير الخلاق. إنها عملية تدمير الوحدة. «لا عجة من دون تكسير البيض». نحن البيض. (تشبيه غير قابل للتهكم) نعم، نحن البيض الطائفى، وغيرنا كذلك.
الحداثة، قتلت من أولادها. إنها أداة تدمير لحقائقها.
أعظم حدث فى تاريخ الرأسمالية هو الحرب العالمية الثانية. وأعظم المكاسب للدول الكواسر، هو الحروب المستدامة. لبنان جبهة صغيرة دامية، فى مسار السعار الدموى العالمى.
فلنغير إذًا فاتحة البدايات:
«فى البدء كانت الفوضى.. أنا فوضوى، إذًا أنا موجود».
حبذا لو يزورنا الصمت لنسمع ما يقوله الفراغ.
هل هناك عبث أشد فتكا.
هذه هى حصتنا من هذا الوجود.
ومع ذلك. فلست متشائما. الفن باب من أبواب الحياة.. فاطرقوه.
النص الأصلي